“خاويةٌ على عُروشها”
أقفُ على أطلالِ فُردوسي المَفقود، بعدَ أن جعلتهُ صواريخُ الاحتلال أثراً بعدَ عين، ضائعاً في طُرقات الذّكرى، تائهاً في ممراتِ الحَنين، انهالت عليّ ذِكرياتي معها ففرتُ منها إليها، ظلّت معلقةً بأهداب قلبي؛ جُدرانها، رفوفها، كتبها، دواوينها، كانت أُنشودة الحُبّ ولحنَ الهيام.
أعودُ بكم إلى القصّة من بدايتها، قصّةُ غزّة الذَبيحة قبل أن تكونَ قصّتي، نحنُ هُنا لا نملكُ سوى بضعِ كلماتٍ لنرويَ للعالم قصّتنا، وإذاً.. فلنروِ مادامَ فينا عِرقٌ ينبُض.
مشدودُ القامةِ كأنّهُ جذعُ شجرةٍ عتيقة، نحيلٌ كأنّ كِنانةَ الحنينِ نثرت على أوجاعه كلّ الأسقام، بشرَتُهُ مُشربّةٌ بسُمرةٍ خفيفة، أمّا عَيناهُ البُندُقيتين فكانتا صامتتين غيرَ أنّهُ إذا أمسكَ كتاباً بينَ راحتيهِ نطقتا بكلّ شيء، نشأَ في فضاء الكَلمات وبينَ أَحضانِ الكُتب، أحبَ العربيّة والنحوَ حدّ الشّغف، مُغرمٌ بالعِلم، كما لو أنّه يُحاوِلُ إضاءة العالم به، كانَ أخفَّ من كومةِ قشٍّ في مَهبِّ رِيح، وأَرقّ من وَترٍ خامسٍ في آلةِ عُود، ومع ذَلك.. بدا الصّخرةَ الّتي تَتحَطمُ عندهَا كلّ الأموَاج!
أنا حَمزة أبو توهة، لقّبني أحدُ دكاترتي الجامِعيين (أبو حيّان) تيمُناً بأحدِ عُلماء النّحو، من وَطنِ اليَاسمين، ولدتُ عام 1995م في يافا، ثمّ انتقلتُ إلى بيت لاهيا شمالَ قطاعِ غزّة، كنتُ قد شارفتُ على الانتهاءِ من دكتوراه لغة عربية، تَخصص النحو والصّرف، في الجامعةِ الإسلاميةِ في غزّة، قبل السّابعِ من أُكتوبر كنتُ منهمكاً في تحقيقِ الكتابِ السّابعِ في العَدد، لكن يَبدو أنّ على الجُملِ ألّا تُتمَ المعنى، فالحربُ قتلتِ الأحلام، وذبَحت الأمانيّ، وأزهَقت أرواحَ الزُهور.. لي من الأبناءِ ثلاثة، (حيّان)، (ورزَان)، (وعوَطف)، رُزقتُ بمولودٍ في الحربِ اسميتهُ (عليّ)، عساهُ يكونُ شُجاعاً كعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، وعالماً بالنّحو كعليّ بن حَمزة رحمه الله، أمّا مَكتبتي، أغلى ما مَلكت، فقد بنيتُها بالحُبّ كِتاباً تلوَ الآخر، كانت فريدةً من نَوعها، ليسَ في غزّة فقط، بل في فلسطين كُلها، حَوت أكثر من عِشرين ألف كتاب؛ في النحوِ والصّرفِ والبلاغةِ والأدبِ والتّفسيرِ والقراءاتِ والحديثِ والمتونِ وغيرُها كَثير، عكفتُ على جمعها منذُ كنتُ في الإعدادية، لكنّ المكتبةَ لا تكتمل، لأنّ العلمَ لانهايةَ له، وكلّما تعلّم الإنسانُ زادَ علمهُ بجهله، فراحَ يسعى نحوَ تَتميم النَقص، لذا فبناءُ المَكتبة ما يزالُ مَعي حتى القَبر.
اندلَعت الحَرب، ولم يكُن حَمزة ببعيدٍ عن مَرمى سِهامها، كانَ لكلّ يومٍ فيها ما يميزهُ من فُصولِ المآسي، في الأسبوع الأوّل من الحَرب فقد ثلاثين فرداً من أقاربه دُفعةً واحدة، كانت طائراتُ الاحتلالِ قد قذفت بصوارِيخها على المبنى الذي يقطنُ فيه عمهُ (أبو رشاد) وأولاده، من يعيش هذه الإبادة بالكاد يستطيعُ أن يصفَ ما مرّ به، المجازرُ لها لغةٌ في إيصالها، لغةٌ لا يفهمها على حقيقتها إلّا الضحيةُ نفسه، أمّا غزّة فكانت عروساً مهرُها الّدم.
التقى صديقهُ (مَعروف) في أحد أيّام الحَرب الشّعثاء، كانت لقاءهما استراحةً من الموت، يتدارَسان فيها أحد الكُتب، أو يتناشدَان بعض الأشعار، فإن لم يكُن هذا ولا ذاك جلسا يُداريان ما أفسدتهُ الحربُ في قلبيهما..
-تعبتُ من هذه الحربِ يا مَعروف، مضى عليها 16 يَوماً كبرتُ فيها 16 عام.
طالعهُ بعينيه الضّاحكتين وَهو يقول:
-دعنا من الكَلام عن المآسي وأخبرني، ما آخرُ ما قرأت؟
-مقامات الإمام الحريريّ
-وما رأيُك بالقراءة في هذهِ الأجواءِ الدرامتيكية؟
تبادلا ابتساماتٍ عذّبة
-تفوقُ الوَصف، بكلّ الأحوال القراءةُ تُجبرُني أن أكونَ هادئاً في حربٍ لم تعُد تسمح بذلك.
اعتدلَ في جلسته وأعادَ عليه سؤاله:
-وأنت؟ ما آخرُ ما قرأت؟ أما زلت مُداوماً على دلائلِ الخيرات؟
-نعم، هوَ ذاك يا صاحبي، قرأتُ قضيّةَ الإعجازِ القُرآنيّ أيضاً.
-ما أشدّ ما أشتاقُ لجلَسات صفائنا مساءات الخميس! ولجلساتي الشّاعريّة بينَ أحضانِ مَكتبتي هادئَ البالِ قريرَ العَين، اشتقتُ للدراسةِ والتدريس، اشتقتُ لكلّ شيءٍ تعودتُ فعلهُ قبل الحرب.
(قالَ حمزة ذلك وهوَ يُداري دمعةً انحدرَت على وَجنته)
قالمَ إليه مَعروف فجلسَ بجانبه وراحَ يربّتُ على كتفه بتحنانٍ بليغٍ وهوَ يُردد:
-هوّن عليكَ يا صَاح، إنّما هيَ دُنيا، وإنّما نحنُ جميعاً مُرتَحلون.
-صدقتَ والله، مازالَ لنا من عُمرنا مالم يُسرق بعد..
كانت رُوحهُ مثقلةً بطعناتِ الحرب الدّامية فألقى جسدهُ المُنهك على كُرسيه وراحَ يعبُّ من سِحرِ الكَلمات، تُرى.. أكانَ يدري ما تُخبئُ لهُ الأقدار؟!
تحديداً في الثامن والعشرين من أُكتوبر، خرجتُ لقضاء بضعِ حوائج لي، وعندما عُدتُ إلى الحيّ الذي أقطُنُ فيه وجدتُ بيتاً يُعانقُ الأرض، حسناً، لقد ضللتُ الطّريق لأوّل مرّة، عُدتُ أدراجي فاصطدمتُ ببيتِ (مَعروف) اتخذتُهُ علامةً أستدلُّ بها، نعم، لقد كانَ ذاكَ البيتُ الّذي سوّي بالأرض هو بَيتي، جُلتُ بعينينِ نابهتينِ على الرُّكام فوقعَت عَيناي على بعض الأثاث، حدّقتُ في الأرضِ أكثر، نقلتُ طَرفي إلى جهةٍ أُخرى فلمحتُ غِلاف كِتاب، اقتربتُ وأمعنتُ النظر فأدركتُ أنّ الردمَ قد ابتلعَ كُتبي الّتي كانت ورداتٍ تسودُ كلّ مساحاتِ قَلبي!.
لا شيءَ يعدلُ ذلكَ المَشهد، أنت تعودَ فلا تجدَ البيتَ ولا الكُتب، تلكَ الّتي أخذت نصيباً عظيماً من حَواسّه الخَمس، لكلّ كتابٍ معهُ قصّة، ولكلّ كتابٍ في القلبِ منزلةٌ ليست لغيره، لكلٍّ منها فضلهُ وقيمتهُ ولذّته، وكم من المؤلم أنّ الكُتُب كلّها تَحوَلت إلى أشلاء!
جالَ كمُذنّبٍ يجهلُ موعدَ ومكانَ الارتطام، عانقَ الألمُ رُوحهُ وهوَ ينتَشلُ كُتبهُا المُمزقة من تحتِ الرُكام، كان دائماً ما يقول: (هؤلاءِ أولادي قبل أولادي، لثمةٌ على جبينِ حيّان تقابلُها لثمةٌ على غلافِ كتاب) وذات مرّةٍ دلفَ بيتهُ وقد ابتاعَ ثلاثين كتاباً، فرأته عَواطف ذاتُ السّنوات الأربع فأسرعت تقولُ لأمها: (بابا جايب ولاد جداد وحاملهم على ظهره).
والآن بدا كنبّاشِ ذِكرى؛ يبحثُ عن أيّ كتابٍ مازال به رمقٌ من حَياة، أمّا قلبهُ فبدا طائراً مُنكّساً رأسهُ أمامَ الفَجيعة.
رفعَ رأسهُ إلى السّماءِ وعيناهُ تنهمرَان بدمُوعٍ مكلومةٍ وهوَ يصيحُ بصوتٍ تمنّى لو أنّ كلّ من على وجه هذه الأرض يسمعهُ: (أقسمُ لكم أيّها الصّهاينة، سنكونُ الشّوكة التي تنغّص عليكم ليلكم ونهاركم، نحنُ شعبٌ لا يموت، نحنُ كالعنقاءِ تصعدُ من رَمادها، القتلُ لا يَزيدنا إلّا حياة، والموتُ لا يَزيدنا إلّا قوّة، وإنّ الشّهادةَ لتَصنعُ منّا جيلَ الثّأرِ الّذي لا يَنتهي، نحنُ قَدرُ الله الغَالب).
أيُّ كلمةٍ تبرّدُ لاعجَ قلبه؟ مكتبتهُ الّتي أفنى زهرةَ عُمره في جمعها وكانت لهُ مدائن الوَجد ومنازلَ الأقحُوان، الآن تلاشت كحُلم، كَأنّها ما كانت!
هرعَ إلى (مَعروف) أحاطَ كتفيه وراحا ينتحبان معاً..
-ذهبت مَكتبتي يا معروف.
-لم تَذهب، هي باقيةٌ هناك.. (وأشارَ بسبابته اليُمنى إلى السّماء)
وأمّا المكتبةُ فقد اصطفاها الّذي منحكَ إيّاها. (أكمل)
-لله ما أعطى ولله ما أخذ (ردد حَمزة بتسليم)
-المُستبدّ لا يرى حقاً لأحدٍ بأن يُخالفه الرأي.
-قل إن الفكرَ الحرّ خطرٌ على الأنظمةِ الاستبدادية.
-صحيح، فلطالما كان نهجُ المُحتل قتل العلم.
-كلّ شيءٍ يمر، لكن ليس كلّ شيءٍ يُنسى يا مَعروف، ستظلُّ مَكتبتي شوكةً في القلب تُوجعني، وأحميها من الرّيح..
مرّت أيام ومازالَ شبحُ مكتبته يطاردُه، تذكّر كيفَ كان قبل دخولها يغتسل، ويتطيّب، ويُصففُ شعره، ويتوضأ، ثم يدخل إليها، وكانت تنزعهُ إلى تلكَ الأفعال سجايا حميدة كان العربُ يفعلونها، تذكّر مصحفه الّذي نجا من المذبحة، وكان قبلَ الحربِ بأيّامٍ قد أُجيز في القراءاتِ العشر المُتواترة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، تذكّر كيفَ كانَ يُحاكي كلّ غلافٍ كما لو أنّه بشر من أُذنين، ويُناجيه كمل لَو كانَ إنساً من قَلب..
ما كانَ يدري أنّ سوادَ حبرِ قلمه الّذي يُضيءُ به هوامشَ الكُتب سيصبحُ قطراتِ دمٍ تنزفُ من عقله المَكلوم.
صحيحٌ أنّ قلبهُ الّذي دُفنَ في تلكَ البُقعةِ لا الكُتب إلّا أنّهُ ما فتئَ يقول:
(غزّة لم تأخُذ منّي شيئاً، كُلّنا فداءٌ لها، على العكس، غزّة أعطتني، أعطتني حبّها، وحُبّ أرضها، وحُبّ بحرها، وحُبّ رملها، وحُبّ هوائها، وعلّمتني أن أصبر، أنا أحبُّ غزّة، وسأحبُها أكثر، وبعدَ الحربِ سأُحبها أكثر وأكثر، وستَبقى كلّ طُرقِ الحُبّ تُؤدي إليها.)
وسيبقى؛
ثاوٍ بِقَلبِي حُبُّ النّحوِ وَالضّادِ
كأنَنِي في الهَوى مِثلُ ابنِ شَدادِ
وبعدَ عدّة أيّام، استُشهدَ (مَعروف).
جلس حَمزة بجانبِ شاهدةِ القبرِ يُناجي صاحبه:
(أيا مَعروف، أيا رفيقَ الدّربِ وخليلَ الرّوح، كنتَ طيلةَ حياتكَ كريماً معي، حتى إذا حانَت ساعةُ استشهادك بخلتَ عليّ فتركتني وغادرتَ دُنيانا الفانيةَ وحدك، رحمكَ الله ما أجمَلك!!
أعدُك أنني سأُعيدُ بناءَ كلّ ما دمرتهُ الحرب، لكن في غزّةٍ مُعافاةٍ من الآلامِ والأسقام.)
لم يتبقَ من رَصيده سوى أحزانه بعد رحيلِ مَعروف، لذا قَرر أن يكتُب، فالكتابةُ عملٌ ثوريٌّ كَذلك..
أمّا نحن؛ فكُنا أبناءَ الحَرب، نمشي للحُلمِ حُفاةَ القَلب وكلّ الدُروبِ شَظايا.
أما زلتُم تُحاولون دفننا؟ يَبدو أنكُم لمْ تعلموا بعدُ أننا بُذور.!
تَمت بِحمد الله
الكِنــانة..