دمية ياسمين

في يوم من الأيام، وعلى شرفة منزل مهدم في أحد أحياء حلب التي أنهكها القصف، ظهرت فتاة صغيرة كأنها زهرة تنمو بين الركام. عيناها بصفاء البحر وزرقته، وشعرها كسواد الليل في هدوئه، وبشرتها بنقاء الثلج تحت ضوء شمس الشتاء. كانت تدعى ياسمين، جالسة تحتضن دميتها، تلعب بها برفق وكأنها تهرب بعالمها الصغير من قسوة الدمار من حولها وبجانبها أبوها الذي كان يقرأ الأخبار بتمعن على هاتفه بأحد مواقع التواصل الاجتماعي. يظهر الحزن جليًا على وجه الأب، فتلتقط ياسمين تلك الملامح العابرة بعينيها البريئتين، لتقول برفق: “بابا، ما بك”
يجيبها مبتسمًا بخفوت: “لا، لا شيء… بابا، هل أنتِ جائعة؟”
تنظر إليه بابتسامتها الطفولية المليئة بالدفء، وتجيبه بلطف عفوي: “نعم.”
يضحك الأب فينهض للذهاب إلى المطبخ، لكن فجأة يسمع صوت طائرة روسية في الجو كالمعتاد ولكن هذه المرة كانت فوقهم تماماً، فيسمع صوت صفير القذيفة وهي تسقط فيمسك بيد ياسمين ويدخلها بسرعة إلى الغرفة ويحضنها.
فجأة، انقطع صوت صفير القذيفة ليحلّ محله دوي انفجار هائل، كان كافيًا لتهشيم زجاج الغرفة وتناثر شظاياه في كل مكان. ساد الصمت لثوان ثقيلة، كأن الزمن توقف رهبةً مما حدث، قبل أن يمزق بكاء ياسمين هذا السكون المرعب. عينيها الواسعتين لم تستطع أن تخفيا رعشة الخوف التي تملكتها، أدرك الأب أن ما تنقله الأخبار صحيح بشأن تحول حيّهم إلى خط تماس بين المعارضة وقوات النظام المجرم، فيقوم بحمل ياسمين على كتفه والخروج مسرعاً من المبنى الذي يعيش فيه. فوجد أحد جنود الثورة يجمع الأهالي ويقول: إن النظام على مشارف الحي يتقدم رويداً رويداً فحفاظاً على سلامتكم سنخلي هذا الحي اليوم لحين إخراج النظام منه.
يبدأ الأهالي بقيادة الجندي بالخروج من الحي. في منتصف الطريق تذكرت ياسمين أنها نسيت دميتها في المنزل فنظرت إلى أبيها وقالت: “بابا…. بابا”
نظر إليها أبوها، فقالت له بحزن: “بابا نسيت دميتي بالبيت!”
فقال لها: “لكن لا نستطيع العودة، الوضع خطير جداً”
 قالت له، وعيناها تُسابقان كلماتها بالدموع: “لكنني أحبها، لا أستطيع التخلي عنها”
فقرر أن يعود لأن هذه الدمية هي الذكرة الوحيدة التي بقيت من أمها التي استشهدت منذ عام في إحدى مدارس حلب وهي تعطي درساً تطوعياً للأيتام.
وصل الأب إلى المنزل فصعد الدرج وهو متوتر بسبب سماعه صوت مركبات شكّ بأنها للنظام ليقطع شكّه صوت ينادي: ” قوموا بتصفية هذا الحي، لا أريد كلباً حياً هنا”.
أتت ياسمين ضاحكةً إلى أبيها لا تدرك الخطر المحدق بهم فقالت: “أبي، لقد عثرت على الدمية.”
حمل الأب ياسمين واختبئا بأسفل السرير الذي ينام عليه الأب ثم قال لها: “بابا، لا تصدري أي صوت.”.
تعلو أصوات الجنود وتقترب وصوت إطلاق النار على الأهالي الذين رفضوا الخروج من الحي يتناقص بتناقص الأحياء في هذا الحي كأنه مقبرة جماعية.
يقاطع تفكيره صوت الجنود وهم يحاولون كسر باب بيته، لم يلبثوا إلا دقائق حتى كانوا بداخل المنزل يبحثون عن أي شيء لقتله.
مرت ربع ساعة كل دقيقة منها بساعة، ياسمين ترتجف خائفة وهي تعانق دميتها بقوى.
خرج الجنود من المبنى مكملين تقدمهم للأمام ليسيطروا على احياء أخرى، فخرج أبو ياسمين وحمل ابنته فذهب الى أقرب نافذة فأخرج طرف رأسه ليراقب الحي، تأكد من خلوه فخرج بحذر من المبنى الذي كان فيه وتوجه باتجاه الأزقة باتجاه شمال حلب هرباً من الجنود، ظن نفسه نجا حتى لمحه أحد جنود النظام ليصرخ منبأً زملائه بوجود فريسة.
سمع أبو ياسمين صوت الجندي وهو يصرخ فبدأ سريعاً بالركض. فلحقه الجنود بسرعة.
خافت ياسمين كثيراً فبدأت بتلاوة سورة الكوثر لتهدأ من روعها.
وأثناء هروبهم صدر انفجار مدوٍ هز الأرض من تحت أقدامهم فسقط أبوها على الأرض وقام سريعاً باستعادة توازنه رغم المه واستكمال الهروب.
عندما شعر بأن نَفَسه سينقطع، دخل إلى أحد الأبنية لكي يختبأ فيه ريثما يلتقط أنفاسه. فجأة بدأت ياسمين بالبكاء بصوت عالٍ من شدة خوفها فقام أبوها بوضع يده على فمها بسرعة ليسكتها وبدأ بتلاوة آية الكرسي بأذنها لكي تهدأ كما كان يفعل دائماً، هدأت ياسمين ليقطع هدوءها صوت الجنود وهم قريبون منهم جداً.
الجنود في الحي يبحثون عنهم ويقتربون منهم رويداً رويداً حتى كاد يفصلهم عنهم أمتار.
لاحظ الأب صوت طائرة روسية مرة أخرى ليقطعه صوت صفير قذيفة. سريعاً أدرك أبو ياسمين أن القذيفة فوقهم والجنود قربهم بحيث لا يستطيعون مغادرة المبنى، فاستلقى على الأرض مغطياً ياسمين بجسده وهمس بأذنها: “أنا معك بابا، لا تخافي.”
تنفجر القذيفة، وكل شيء يصبح مظلمًا وصامتًا. تستيقظ ياسمين لتجد نفسها تحت الأنقاض، غير قادرة على تحريك والدها الذي يغطيها بجسده.
تصرخ ياسمين محاولةً إيقاظ أبيها: “بابا، بابا…..” ولكن بلا جدوى فتبكي بحرقة وتصرخ: “بابا!، استيقظ يا بابا”.
فتحضن دميتها وتبدأ بترديد سورة الكوثر وآية الكرسي وهي تبكي بحرقة شديدة.
بعد ساعات سمعت صوت شخص يصرخ: “هل يوجد أحد هنا؟” حاولت ياسمين أن تصرخ قائلة: “نعم، يوجد أنا وأبي ودميتي.” ولكن بسبب نعومة صوتها لم يسمعها أحد سوى ربها، فأعاد الرجل سؤاله فأعادت جوابها بصوت أعلى.  شك الرجل بأنه سمع صوتاً فأعاد سؤاله للمرة الثالثة فأعادت جوابها بصوت أعلى وأعلى. سمع الرجل صوتها فصرخ بفرح: “يوجد أحياء هنا…….، يوجد أحياء.” فبدأ فريق القبعات البيضاء بإزالة الأنقاض عنها.
عندما سمعت ياسمين صوت الجرافة الضخمة تحفر فوقها شعرت بالخوف وقالت بينها وبين نفسها: “أنا صغيرة ويد هذه الآلة كبيرة، أخشى أن تسحقني بالخطأ لأن العم الذي يقودها لا يعلم بمكاني.”
بعد مرور أربع ساعات رأت ياسمين نوراً من الخارج، رأت يداً ممدودة إليها يسبقها صوت العم الذي يقول: “امسكي بيدي يا صغيرتي.”
أمسكت ياسمين بيده فسحبها فقالت له: “يا عم أبي ودميتي بالأسفل قم بإخراجهما.”
فضحك الرجل قائلاً: “لا تقلقي يا صغيرة نحن نقوم بإخراجهم”
أمسكت ياسمين يد الرجل بلطف قائلة: “يا عم أريد طعاماً”.
فأحضر لها الرجل طعاما وبعض الماء وقام بتضميد جروحها بينما كانت تأكل.
عندما انتهت من طعامها سألها: “ما اسمك يا صغيرة؟”
فقالت له: “ياسمين…… اسمي ياسمين.”
فقال لها: “يا ياسمين كم عمرك؟”
فأجابته: “خمس سنوات” وأردفت: “هل أخرجتم أبي ودميتي؟”
فقال لها: “نعم إنهما هناك.”
ذهبت برفقة الرجل فرأت أبوها ودميتها ملطخون بالدماء فقالت وهي بحالة صدمة: “خذوا أبي على المشفى بسرعة.”
فنظر إليها أحدهم بحزنٍ وقال: “حبيبتي، بابا ذهب لعند الله. هو الآن في مكان جميل. ويحب رؤيتك قوية وشجاعة”.
نزلت هذه الكلمات على ياسمين مثل الصاعقة. فصمت ياسمين للحظات قبل أن تنفجر بالبكاء.
احتضنت ياسمين جثة أبيها ودميتها بين ذراعيها، وهي منهارة بالبكاء، تصرخ بلا صوت وكأن الكون كله قد توقف ليشاركها الحزن. ارتجفت أناملها على وجه أبيها كأنها ترجوه أن يعود، لكنها أدركت أن الدعاء وحده ما تبقى لها، وأن رحيله كان بداية لفقدان لا يملؤه شيء.

Loading

3.3/5 - (11 تقييم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top