منزل وشارعين؛ هكذا كان العالم بأكمله بالنسبة لها، هل تخليت يوماً أن طفلاً في القرن الواحد والعشرين لم يعرف ماهي روضة الأطفال؟! ولم يرَ بعينيه قط بحراً أو نهراً أو بحيرة؟! لم يزر حديقة حيوان أو مدينة ألعاب؟! لم يجرب حتى ركوب حصان العيد أو سماع صوت قطار؟!
نعم..هكذا كان العالم بالنسبة للطفلة هبة ذات العينين الدائريتين السوداوين والتي لم تعرف من الحياة شيئاً عدا منزلها ومدرستها والطريق الذي يربط بينهما.
كان عمر هبة أربع سنوات عندما بدأت الحرب وبدل أن تخوض رحلة الذهاب إلى الروضة كأول تجربة لها في الحياة خارج إطار المنزل كان النزوح هو التجربة الأولى، لكن لحسن حظها لم تكن تجربة طويلة حيث استمرت بضعة أشهر فقط وعادت مع أسرتها إلى منزلهم ذي الحديقة الجميلة المكسوة بالأزهار والمسورة بالأشجار، كانت عودةً تبعث في قلبها الطمأنينة والأمان رغم كل الخطر المحيط بها، كيف لا وهي طفلة حدود عالمها اجتماع عائلتها تحت سقف منزلهم وبين جدرانه، هذه العائلة مكونة من أبٍ وأمٍ محبين وأخٍ وأختٍ أكبر يمنحانها السعادة.
كانت سنة قد مرت وبدأ بعض الجيران والأصدقاء يعودون لمنازلهم المجاورة، وقرر أهالي القرية افتتاح مدرسة ليعيش أطفالهم شيئاً من الحياة الطبيعية محاولين تجاوز الرعب والخوف، ساعين لإعادتهم إلى مقاعد الدراسة.. وككل الأطفال كانت مرح الأخت الكبرى من أوائل الذاهبين بحماسٍ للتعلم واللعب مع الأصدقاء، كما تم استقبال الأطفال الذين هم في مثل عمر هبة بشكل استثنائي كمستمعين مع طلاب الصف الأول لعدم توفر الروضات في القرية، وهكذا توسعت الحياة بالنسبة لها للمرة الأولى فأصبحت تستيقظ كل يوم باكراً على صوت والدتها:
ـ هيا يا هبة لايمكنك البقاء في المنزل عليكِ الذهاب مع أختكِ للمدرسة.
لترد بكل نشاطٍ وسعادةٍ:
ـ أنا مستعدة يا أمي. ثم تمسك بيد أختها مرح وتصطحبان في طريقهما ابنة الجيران آيات ليمضوا ساعاتٍ مع الأصدقاء والمعلمين ويعودوا إلى منازلهم ثانية، كانت حياة صغيرة لكنها كانت كافية لتجعل هذه الطفلة سعيدة مبهجة كإشراقة شمس الصباح.
كان الدرس الأول في هذا العالم الجديد لها هو التعرف على أسماء أصدقائها مما أثار فضولها ـ أمي ما معنى اسمي هبة؟!
ـ إنه يعني أنكِ كنتِ هدية من الله تعالى لنا.. قمعت هبة ارتفاع زوايا شفتيها بوجه خجول وقالت: ( هدية، أنا هدية ) ثم التفتت ولمست خديها الصغيرين المحمرين وهي تضحك.
مرت فترة هادئة نوعاً ما تمر على هذه القرية الصغيرة ليتنفس أهلها بضعة أنفاس آمنة بين فترات الرعب والقصف والقلق فقررت عائلة هبة اصطحابها مع أختها وصديقتهما آيات لتناول الغداء للمرة الأولى بالنسبة لهن خارج المنزل ولزيارة قرية أخرى غير قريتهن التي يعرفنها، لتكون هذه التجربة هي الثانية لها للخروج من حوض الأسماك الذي تعيش فيه.
كان الطريق عبارة عن التفافات بين تلال تكسوها أشجار كبيرة وهو مشهد سحر عيني هبة وأشعل بريق النجوم فيهما ولم تتمكن من كبح دهشتها لتسأل: ـ هل هذا جبل؟ ضحكت مرح وقالت: ـ هذا أصغر من أن يكون جبل، فتكرر هبة: هل هذا جبل؟ سايرت مرح مشاعر أختها الصغيرة ووافقتها ـ نعم هذا جبل.
ـ يا سلام!! بابا، انظر هذا جبل
ثم التفتت لأمها: ـ انظري، إنه جبل حقيقي!! ضحك الجميع بمرح على ردة فعل الطفلة التي رأت تلاً لأول مرة فظنته جبلا، كان الموقف وقتها مضحكاً ومرحاً لكن تذكره الآن يجعل القلب يرتجف من الألم لتدرك أن الطفلة كانت زهرة تفتحت وذبلت في حديقة دون أن ترَ شيئاً من العالم الواسع.
مرت الأيام والأشهر بلمح البصر ودخلت هبة عامها السابع ليجول في بالها سؤال ربما لايخطر على بالِ أطفالٍ لم يخوضوا تجربة الحرب والخطر فتسأل أختها: ـ مرح كم يجب أن يكون عمري عندما أموت حتى أكون عصفورةً في الجنة؟
نظرت إليها مرح بدهشة ثم جرَّت ابتسامتها محاولةً جعل السؤال فكاهياً قدر الإمكان: ـ لقد فاتكِ القطار، الأطفال الذين يموتون قبل بلوغهم سبع سنوات هم العصافير فقط… لتصمت هبة وتومئ برأسها بضعفٍ ثم تذهب.
وكما في كل مرة لم تكن فترة الأمان والسعادة طويلة وعاد الخطر يلف أرجاء القرية وعادت الوحوش التي تتغذى على دموع ودماء الناس تحوم في السماء محولة شمسها المشرقة إلى شمسٍ سوداء قاسية، لكن هبة طفلة لاتعلم عن كل هذا لتستيقظ كما العادة باكراً وتنطلق مع أختها إلى منزل آيات التي كانت متكاسلةً حينها عن الذهاب معهم غير مدركةٍ أن الله قدّر أن يكون السرير منقذها في ذلك اليوم، فعند باب حديقة منزلهم كان صاروخ من طائرة غادرة بانتظار هبة ومرح منهياً كل تجاربهما في هذه الحياة دفعةً واحدةً.
لتكون حقيقة من أقسى الحقائق أن هبة طفلة من مئات الآلاف من الأطفال الذين كان كل ما رأوه من الحياة ليس أكثر من منزل وشارعين.
الكاتبة : ملك طحان