يغذّ النهار السير ليجلو دياجير الليل البهيم، موشّحا أديم الأرض بأشعة شمسه الصفراء
ليُذهب عنها الوحشة، ويُضفي عليها السكينة والدفء
وفي ليلة ليلاء ..
تعالت الأصوات فيها بالضحكات الصاخبة، المُوحية بخواء نفوس أصحابها، وفراغ قلوبهم مما يشغلها ..
والسُمّار غارقون في لهوهم، يُبدّدون الأوقات، ولا فرق عندهم بين ليل أو نهار ..
ولو قلّبت طرفك فيهم، لن تخطئ عيناك في زاوية المجلس فتى منكفئاً على نفسه، يبحث عن الأماكن التي لا تُسلّط عليها الأنوار، حتى يكون في مأمن عن الأخذ والرد،
يُشاركهم الضحكات بابتسامة صفراء، تطرق سمعه الأحاديث التي يخوضون فيها؛ ولا تُلامس في قلبه شيئا، بل وتشمئز نفسه منها،
يشعر كأنه متوسّد الجمر، تتصارعُ الخواطر في داخله،
يصرخ في نفسه ” ليس مكاني هنا” ..
لم تكن هذه الخواطر وليدة يومها، بل كانت قطرات جُمعّت مع كرّ الأيام والليالي حتى غدت سيلاً عارماً لا يقف أمامه شيء، قد ضاق ذرعاً بالمجالس التي لا تزيده إلا بلاهة، وضياعاً للأوقات
وضع يده على وجنته مُطرقاً، لو رأيته لحسبت أن هموم الثقلين أُفرغت في صدره
خاطب نفسه قائلا:
أضاقت الأرض برحبها لأسجن نفسي هنا؟
وهل عُدمت من الخلان فلم يبق على أديمها إلا هذا المعشر؟
وانتفض من مكانه كمن أصابته صاعقة، وانتصب قائما وسط استغرب من الجميع، حملقت العيون شاخصة إليه، تنتظر منه أن ينبس ببنة شفة ليُزيل هذا الاستغراب الذي داخل نفوسهم
وعندها انفجر قائلا: ويحكم يا قوم!
أمعيشة البهائم ليس لكم من دنياكم سوى ما لها ..
أتزجّون الأوقات بالتوافه كأنها عبء تُلقونه عن ظهوركم؟
لعمري إنّ حياة كهذه لا تُسمى حياة، بل الطّائر المحلّق في جوّ السماء، والسّبع اللّاهث بين الأدغال لأرشد منكم مسيراً، وأزكى طريقا
فانبرى له أحدهم، ورمقه بنظرات كالسهام، واعترض كلامه بلهجة ساخرة : يبدو أنّ لدينا من قد قويَ ساعده، ونبت ريشه، ورأى لنفسه الحقّ في أن يُسفّه أحاديثنا، ويشين مجالسنا، ويتمرّد على جمعنا
ثمّ ومنذ متى كان لك رأيٌ تُدلي به، وأنت مثلُ الصّنم جموداً مذ عرفناك؟
يبدو أن ما تحويه القلوب قد ظهرَ على الجوارح أخيراً، وبدا معدنك الزائفُ الذي كنّا نظنه ذهبا
فامتعض صاحبنا من كلامه، واستشاط غضبا وقال:
أحشفا وسوء كيلة؟
أتجمعون على أنفسكم الوقوع في الخطأ والمنافحة عنه.
أما كان الأجدر بكم أن تُلقوا أسماعكم لمن يبغي رشادكم، بدلاً من مهاجمته والطعن في دواخله؟
عجباً للناس ..
يتساقطون على ما فيه ضرهم، وينأون عما فيه نفعهم، ويرحم ربنا نبيّ الله عندما قال ” ولكن لا تحبون الناصحين”
وما ذلك إلا لأنّ الانحدار سهل، يستطيعه كل أحد، أما الصعود فهو حكرٌ على من غلب النفس، وأخضع الهوى، وأذل شيطانه
وإني مُلقٍ على مسامعكم رسالة أخيرة، يحدوني لقولها تلك المجالس التي جمعتني بكم، وجعلت من الحق عليّ تنبيهكم ولو أعرضتم، فإن الحرّ يُراعي وداد اللحظة الواحدة، فكيف بالأيام الطويلة:
إنّما أعماركم هذه الأنفاس التي تصعد وتهبط بها صدوركم، وإن كلّ نفس خرج منها لن يعود أبد الدهر، وهو عليكم شهيد بما فعلتم، فالبدار البدار قبل فوات الأوان ..
وولّى مدبراً عنهم، فأتبعوه بأبصارهم حتى غاب.
رانَ الصمت على الجميع، وساد الهدوء أرجاء المجلس، وبدت علامات الحيرة والاضطراب على قسمات الوجوه، ينظرون إلى بعضهم من طرف خفيّ، قد حرّك كلام صاحبهم شيئا ما في نفوسهم، فكأنّ غشاوة كانت على الأبصار فجلّاها
ورجعوا إلى أنفسهم فقالوا: والله ما جانب صاحبنا الصواب، وإن كلامه لحق لا مرية في ذلك، فكفانا ما ضيّعنا من شهور وأعوام، يهرمنا كر الليالي والنهار، ونتقهقهر بدل التقدم
وهنا انتصب أحدهم فقال: هلموا إلى صاحبكم فلا تفرّطوا فيه وقد صدقكم القول، ومحضكم النصح، فو الله ما عرفنا قدره إلا الساعة، وجلس الصاحب الأريب بين ظهرانيهم وقال:
يا إخواني ..
إن من الغبن أن يعيش الإنسان ولا همّ له سوى ما دخل في جوفه، أو ما دعته نفسه إليه من الهوى، وما يُتناقلُ على ألسنة الناس، وحريّ بنا جميعا أن نتعلّق بكل لحظة فلا ندعها تمرّ إلا وقد حمّلناها ما يعود علينا بالسرور في دنيانا وآخرتنا
وإني باسط يديّ إليكم لنتعاهد على الحفاظ على أوقاتنا، وعلى السعي الحثيث في كل أبواب الخير، وعلى الابتعاد عن سفاسف الأقوال والأعمال، فما فيها والله إلا الخسران
وكأنّ المجلس انقلبَ رأساً على عقب، تغيّرت القلوب قبل الوجوه، وشتان ما بين المجلسين، كأنّ الأول كان في الحضيض فارتفع إلى العلياء يُقارن النجوم، وهكذا الرفيق الصالح، ينهض بإخوانه إلى معالي الأمور، ويخرجهم مما هم فيه من ضياع وقصور، فحريّ بكل من يسعى للمجد أن يسير في ركاب صحبة صادقة، تشد على عضده، وتقوّي ساعده، وتحلّق به نحو القمم.