لستُ مُذنبة

نام عمر نومًا عميقًا كأن النوم لم يزره منذ شهر، ولكن لم يلبث قليلاً حتى انتفض من نومه العميق والعرق يزخ منه وكأنه كان يجري مسافات طويلة.
بسم الله الرحمن الرحيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
واستيقظت زوجته على صوته وهو يتمتم
ـ ما بك يا عمر؟ “بسم الله عليك ما بك؟”
كان يأخذ نفسه بقوة وبسرعة وكلامه متقطع
ـ كابوس… كابوس! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم… أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
ـ اهدأ يا عزيزي، وعد للنوم لا بأس عليك.
هدأ عمر بعد ما أعطته زوجته ماءً واستلقى على ظهره وهو يحدق بسقف الغرفة!
ـ ماذا شاهدت يا عمر في منامك حتى انتفضت بهذه الحالة؟
ـ لم أرَ، وإنما سمعت صوت امرأة يرتجف وينادي: يا عمر، لا تتأخر عليَّ إني بانتظارك، لا تتأخر سيقتلونني! كان الصوت جدًا مخيفاً، يخرج من المشرحة لم أرَ، كان الظلام حالكًا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، سوف أنهض وأصلي ركعتين وأعود إلى النوم.
ـ عساه خيرًا يا عمر!
توضأ عمر وصلى ثم عاد للفراش وهو متعب جداً، وحاول أن يغير وضعية نومه ربما بسببها شاهد هذا الكابوس واستسلم للنوم مرةً أخرى.
لم يلبث قليلاً حتى انتفض مرّةً أُخرى… بسم الله بسم الله، وانتفضت زوجته معه، وضعت يدها على قلبه الذي كان ينبض بسرعة تحاول تهدئته…
ـ بسم الله عليك يا عمر هل قرأت أذكار ما قبل النوم؟
ـ نعم … نعم!
ـ لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ـ الأمر ليس طبيعياً هذه الليلة، المنام ذاته! لا أدري ماذا يجري!
لم يستطيع النوم وجلس يفكر ماذا يفعل، القلق تسلل داخله.
ـ إلى أين يا عمر؟
ـ سأذهب إلى المستشفى، لا تقلقي عودي إلى النوم يا حبيبتي.
ـ في هذه الساعة المتأخرة؟

نعم نعم… لا عليكِ عزيزتي، أريد أن أذهب.
توضأ عمر وارتدى ملابسه وهو يرتعش من البرد كأنَّ نزلة برد أصابته!

ارتدِ هذه عزيزي؛ الجو بارد خارجاً… بحمى الرحمن.
خرج عمر مسرعاً من بيته ركب سيارته، وصوت المرأة لا يزال يتردد على مسامعه. كان جسمه يرتجف من البرد والقلق، كان الجو ماطراً وضوء السيارة يرسم شعاعاً أمامه بسبب المطر، والطريق يخلو تماماً من المارة، مَن سيخرج في هذا الوقت المتأخر والجو البارد؟

أعوذ بالله، أعوذ بالله، أعوذ بالله، ما هذا؟!
يردد عمر في صدره: بسم الله، بسم الله: أهذه امرأة على الطريق أم أنا أتوهّم؟ كان الطريق مظلماً، فقط ضوء السيارة وهذا الشيء الذي يلوح أمامه، ليس واضحاً ما هو، هل هو إنسي أم جني، ربما أحد ضل في هذا الليل المخيف، كأنها امرأة ترتدي ثوباً ملطخاً بالدماء! كاد قلب عمر أن ينخلعَ من شدة الخوف! وهذا الشيء أمامه كلما اقترب منه ابتعد، كأنه سراب في صحراء حارقة، تارة يراه أمامه وتارة أخرى يراه خلفه بمرآة السيارة… كان المشهد مرعباً!

يا الله يا الله صوت المرأة وهذا الشيء الغريب… اللهم أسألك السلامة!
وقاطع أفكار عمر صوت المؤذن لصلاة الفجر:
الله أكبر الله أكبر
أشهد أن لا إله إلا الله…
كان صوت الأذان كاليد الحانية مسحت على قلب عمر فنزل من سيارته وتوجه نحو المسجد ليصلي.
بعد انتهائه من الصلاة بقي جالس مكانه وهو يأخذ نفساً عميقاً، واقترب من شيخ كبير عليه أثر التقوى والصلاح ذي وقار، وضع نظارته الكبيرة وهو يحدق بعمر:

أنت لست من هنا لم أركَ من قبلُ في المسجد!

نعم نعم يا عم، أنا من ضواحي عفرين.

ماذا أتى بك إلى هنا في هذا الوقت المتأخر؟

ذاهب إلى عملي.

ما هذا العمل الذي يجعلك تخرج في هذا الليل البارد؟

أنا طبيب شرعي.

آه! ما شاء الله تبارك الرحمن!
تنهد عمر وهمَّ بالنهوض.

خيراً إن شاء الله يا بني؟!
وقص عليه عمر ما حدث معه خلال الليل…
تعجب الشيخ الكبير ورَبَتَ على كتفه وهو يردد: خيرًا خيرًا إن شاء الله، شعر عمر بالراحة قليلاً، وخرج يتابع طريقه إلى المستشفى وهو يردد لعله خير، وصل عمر إلى المستشفى، كان هادئاً كمدينة مهجورة يغمرها السكون، ليس فيها أحد سوى الحارس جلس أمام بابها الكبير.
ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أهلاً حكيم خيراً إن شاء الله!

أين علي؟

إنه في غرفته نائم.

أخبره كي يأتي إليَّ حالاً.
أتى علي يترنح بجسده النحيل وهو يمشي ببطء، فنظر إليه عمر وهو يحك تلك الوحمة التي في جبينه التي احمرّت من الغضب.

أهلاً حكيم.

أين الجثة؟ أريد أن أرها.

أي جثة؟

هيا يا علي لا تكثر السؤال.

حاضر حكيم!
كانت غرفة البراد جداً مظلمة وباردة تبعث الخوف في نفس من يراها، ولا يدخلها إلا أصحاب القلوب القوية.

افتح براد الجثة التي وصلت الليلة.

دكتور الجثة وصلت إلى المستشفى محروقة.

ماذا؟ افتح افتح دعني أرها.
سحب عليٌّ السرير من داخل البراد إذا بجثة محروقة لا زالت الحرارة دافئة.

الله أكبر الله أكبر ما هذا؟

علي! على الفور جهز معدات التشريح سوف نبدأ بتشريح الجثة…

الآن؟

علي! قلت الآن أسرع!
هل تعلم من أتى بها إلى هنا يا علي؟

نعم لقد وجدوها في مكبِّ النفايات أتى بها أهل أحد الأحياء القريبة.

يا الله!
بدأ التشريح واستمر حتى الحادية عشرة صباحًا، عند الانتهاء بدأ عمر بكتابة التقرير: فتاة بعمر الثمانية عشر عاماً، عذراء، توفيت الساعة السادسة مساءً. سبب الوفاة حرق بمادة مشتعلة.

حكيم؟! ما سبب الجريمة برأيك؟

الله أعلم يا علي!

هل لديكم رقم مَن أتى بها إلى هنا؟

نعم حكيم.

اتصل بالشرطة وأخبرهم أن يأتوا من فورهم.

حاضر!
لما يلبثوا قليلاً حتى دخل رجل طويل، دخل المكتب تعلو وجهه علامات التجهم والبرود والقوة، وعرف عن نفسه:

المقدم صهيب.

أهلاً سيد صهيب، لدينا جثة وصلت محروقة، وهذا تقرير الطبيب الشرعي مع رقم من أتى بها إلى هنا.

من استلم الجثة عند جلبها إلى المستشفى؟

أنا سيدي.

تفضل لدي عدة أسئلة.
الساعة الرابعة عصرًا استطاعوا الوصول إلى الأهالي الذين أتوا بالجثة والتحقيق معهم، إلى أن وصلوا لمن اقترف هذه الجريمة الشنيعة، وألقوا القبض عليه.
في مركز الشرطة، وفي إحدى الغرف الصغيرة التي لا يوجد فيها سوى ضوء يترنح يميناً يساراً في المنتصف وطاولة وكرسيان، يجلس رجل في الأربعين من عمره يشبه كيس القش ورأسه كالكرة فوق الكيس لا يُرى له رقبة من شدة البدانة، دخل المحقق إليه وسأله:

ما صلة القربة التي تربطك بالجثة؟

إنها أختي.

لماذا قتلتها أو للتوضيح أكثر لماذا أحرقتها؟

غسلتُ عاري.
ابتعد المحقق عن الطاولة وهو ينظر إليه وبدت عضلات جسده تستأثر واقترب منه وصفعه صفعة طرحته أرضًا.

انهض واجلس مكانك.
كيف عرفت أن عارك يجب أن يُغسل؟

زوجتي أخبرتني بأن اختي (ليست بنتاً)!

هل زوجتك طبيبة نسائية؟

لا
فانهال عليه بالضرب حتى أصبح وجه كخريطة دون ملامح ينزف الدم من كل مكان.

قلت لي غسلت عارك أليس كذلك؟
أيها المغفل أختك عذراء (بنت)! زوجتك أخبرتك فحرقت أختك أيها الحثالة، ضرب المحقق على الطاولة بقوة وخرج من الغرفة، وترك الرجل وحده وهو يضحك تارة ويبكي تارة ينهض ويجلس كأنه جُن قد دخل جسده وهو يردد: أختي بنت، أختي بنت، أنا حرقت أختي؟!
وهو يبكي ويضحك: بنت! بنت! بنت!

الكاتبة : فاطمة الحمادي

Loading

تقيم هذه القصة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top