يطرقُ صاحب البيت بابي:
– سأضطر لرفع سعر الإيجار، فأنت ترى أوضاع البلاد!
أجاوبه متلعثماً وأغصُّ بدمعي:
– كما تريد!
لم أفاوضه، لأنَّ البيوت قليلة ويصعبُ نقل أغراضي في شتاءٍ قاس، وزوجتي حاملٌ في شهرها الأخير..
أعملُ مع الثّوارِ وتضيقُ الأحوال بنا جميعاً، أحاول التّخفيف عن زوجتي فحملها وهن على وهن، ونحن في غربتنا؛ لا أهلي ولا أهلها حولنا.
أغدو باحثاً عن شهم لأتديّن منه؛ فأصحاب البيوت لا يقبلون إلّا بالدفع المقدّم عن ثلاثة أشهر! وكلّما أحاول العيش في مخيّمات الكرامة أعجز؛ فلم نستطع تحمّل الأهوال فيها، يتحوّل أمثالي إلى آلةٍ تنتج الأموال لتقديمها لأصحاب البيوت التي تأوينا.
يباغتني اتّصال المسؤول في اللواء؛ ليخبرني بالحضور فوراً، فأدخل المقرّ وإذ يجتمع الأحرار حول خريطة كبيرة ينظرون إليها بتعطش وعجب:
– المسؤول: كلّ هذه البلاد الموجودة في الرّقعة ستعود إلينا غداً.
لم أستوعب أنَّ ما يقصده بكلمة (غداً): (صباح اليوم التّالي)، ثمّ يوضّح الخطّة وتجهيزات الاقتحام المفاجئ، رغم فرحي بذلك إلّا أنّني أفكّر في إيجار البيت وولادة زوجتي!
فيحدّق بي مُستغرباً:
– أليست هذه مدينتك؟! بم تفكرُّ؟
أجاوبه ولساني معتقلٌ:
– أحتاج المغادرة قليلاً؛ لأقضي بعض حاجاتي!
يعجب الجميع منّي، وأذهلُ من نفسي، فلستُ مستقرَّ الحال، أفيءُ إلى بيتي مجّدداً، تكابدُ زوجتي أوجاعها، فأقول في نفسي:
– كيف سأتركها وحدها؟!
تمعنُ بعيونٍ دامعةٍ نحوي:
– هناك كلامٌ يختبئ تحت لسانك!
يمكنك كتمُ الأسرار عن الخلق إلا أمّكَ وزوجك! فهما تقرأن الجبين، فأبوح:
– لديَّ عملٌ على الثّغور…!
لم أكمل كلامي إذ تفاجئني بكلامٍ واثق:
– اذهب حيث المجد، ولا تلتفت وراءك!
لم أعد أدري ماذا أجاوبها! هذه ولادتها الثّانيةُ وحالتها النّفسيّة مزرية مذ توفّي ابني الأوّل في الحصار، أعانقها وأمسح رأسها؛ ثمَّ أنطلق إلى صاحب البيت، معتذراً إليه عن الدّفع بشكلٍ مباشر؛ فيثور مُهدّداً:
– كل العالم بدها بيتي حاول لا تتأخّر عليّ!
تحمرُّ عيناي وأختنق ذلّاً، لكنّ الله جلّ في علاه إذا كتب الهجرة على العبدِ سيرزقه سعةً، وبينما أعود إلى المقرّ ألتقي بصديق لي، فيعرض عليّ إرسال زوجته إلى زوجتي لتعينها، فأقبل منه شاكراً.
أرجعُ المقرَّ وأشاهد العجب العجاب، هل هي ليلة العيد؟! يعانق الأصدقاء بنادقهم، فيلتهب النّزق الثوريُّ بي، أمسك البندقيّةَ فأقبّلها متبسّماً:
– إشبك يا خيت! اليوم يومك!
تنطلق القوّات باتّجاه مواقع العمل المُنتظر، يراقبُ كلّ واحد منّا إطلالة مدينته التي هُجِّرَ منها، وأتطلّع إلى حلب متلهّفاً، وفي اللحظة ذاتها يصلني إشعار رسالة من أمّي:
– الله يرضى عليك يا يوم، ربي يسهل ولادة حرمتك، والله يلم شملنا عن قريب.
تمرُّ سنةٌ ثامنةٌ على فراق أُمَّيْنِ لي، الشّهباء وأمّي التي أنجبتني، فأشدو:
– غداً سنعودُ والأجيالُ تصغي إلى وقع الخطى عند الإياب
نتربّع ليلاً في المناطق الغربيّة، إشارةُ انطلاق معركتنا انفجار شاهين _وهي طائرةٌ مسيّرةٌ مفخّخة_ في جموع المعتدين.
يقف رجلٌ وسطنا منشداً:
شَـــــــــــــــــــــــرِّدْ عِـــدَاكَ وَلَا تُـــطِـــلْ أَعْـــمَــارَهَــا طـــــهّــــــرْ دِيَـــــارَكَ لَــــــنْ تَـــكُـــــوْنَ دِيَـــــــــارَهَـــا
وَبِشوكِ غَــــــرْقَــــــــدَةٍ تَــــــرَى أَدْبَــــــــــــــــــارَهَــا وَإِذَا المَنِـــــــــيَّـــةُ أَنْـــــــــشَـــــــــــــبَـــتْ أَظْــفَــارَهَـــا
ألــــفيــــت كــلّ تميمةٍ لا تنفعُ
تنفجر شاهين للتوّ، فتتفجّرُ البراكين الخامدة، ويصيرُ الأصحاب وحوشاً لا تهاب الموت! القصف الذي نتجرّعهُ من سنواتٍ يخرج اليوم ثأراً، وويلات النّزوح التي نبتلعها غصباً نستفرغها الآن غضباً..
ما إن تخبطُ أوّل رصاصةٍ من بنادقنا فيهم حتّى تتلظّى نيراناً، تستيقظ روح الثّورة مجدّداً لتعيد أمجاداً قديمة، يزعقُ جنديٌّ من العدوّ واجفاً:
– أنا أستسلم.. أنا أستسلم!
وتوّاً يسمع صديقي عبر (اللاسلكيّ) أصوات من في القرى الغربيّة:
– سيدي هاجمين علينا متل الجراد ما فينا نقاوم..
فجأةً نلمحُ أعداداً كبيرةً تفرُّ كالحمر المستنفرة من قسورة، فأهمسُ:
– إذا كنتم جبناء لهذ الحدّ فلم كنتم تقصفوننا؟!
نكسر الطّوق الأمنيّ الأوّل، ونقتحم القرى المحيطة، ونحرّرُ قرية أحد الأصدقاء، فيبصرُ والدهُ فيجري نحوه مشتاقاً، كطفلٍ يلهثُ وراء بائع (الغزلة) حين ينصرف! يلتقيان فيبكيان على أكتاف بعضهما سعدا، وأبكي متأثّراً متذكّراً أهلي.
أحيطُ حالا بالجنديّ الـمُستسلمِ، فأتذّكرُ ابني القتيل في الحصار؛ لكن يسبق عفوي غضبي! ويظنّ ذاك الجبان أنّني مثله! فيفاجئه الصفحُ، أرسله إلى المسؤولين ليحقّقوا معهُ، أتركهُ لأنّه ألقى سلاحه خاضعاً ولم يقاومنا؛ وما فائدة النّصر إذا خسرتُ أخلاقي؟!
بيننا وبين حلب سبعة فراسخ، كلّما نحرّرُ قرية ينبض قلبي، وبغتةً يُرسلُ لي المسؤول عبر (اللاسلكي)..
– نريدك حالاً! عد إلى غرفة العمليّات!
يرعبني اتّصاله فأذهب فوراً، أجد الوجوه مكفهرّةً، والغضب يستشيطُ، فأوجس خيفةً، فينادي عليّ:
– هل أنت مستعدٌّ للتّسلّل مع كتيبة فدائيّين لدخول حلب الجديدة؟!
يخامرني السّرور ويعترني الوجلُ، ربّما أسْتَشْهَدُ أثناء دخولي حلب؛ لكنَّها أجمل ميتةٍ أتمنّاها! وما إن أجاوبه بقبولي، يصدحُ:
– أنت قائد هذه الكتيبة اختر من يعينك في معركتك!
أتفاجأ من قراره، ثمّ أدركُ أنَّ كلَّ واحد في هذه المعركةِ قادرٌ على القيادة؛ لأنّنا نعلم لماذا نقاتل؟ وفيم نخرج؟ أسميت الكتيبة (كتيبة النّصر) تيمّناً به..
أتّصلُ فوراً مع أصدقاء لي في فصائل ثوريّة أخرى، وأطلب منهم الحضور إليّ؛ لنقاتل صفّا واحداً كالبنيانِ المرصوص، يصل الأصحاب تباعاً، أخلعُ راية الفصيل الذي أنتمي إليه، وأرفع علم الثّورة، هاتفاً:
– لا تحزّب ولا فصائل بعد اليوم! حلبُ ستجمعنا جميعاً.
فيصنع الأصحاب صنعي، نتسلّل من بين الأبنية، فيواجه تقدّمنا جنودٌ ضعفاء بمعدّاتٍ قويّة، أؤمن أنّ: (العين قد تطعن مخرزاً) إذا آمنتْ بالله واعتصمتْ به، تفتك رشّاشات العدوّ بنا، وتصيب بعضنا لكنَّ قدرة الله ونصرَه إذا حلَّا يجعلان المستحيل ممكناً!
اندفاعنا – رغم جراحنا_ يشبه اندفاع الماء من سدٍّ منهارٍ، أجدني واقفاً بين الرّصاصات مكبّراً، فيلتفّ الأحرار من حولي ويطلق الصّناديدُ رصاصات صدقهم على رعاديد الباطل..
هي لحظاتٌ مريرةٌ، (وما النصّر إلا صبر ساعة)، أعدو غير آبه بما سيصيبني فيسرع الأصحاب من ورائي، أباغتُ نقاطهم ومقرّاتهم؛ فأراها فارغة خاويةً على عروشها؛ فرَّ الجبناءُ منها متخاذلين! فألمحُ زجاجة خمرٍ لم تنفذ! فهم في سكرهم يعمهون! وأشاهدُ ألعاب الورق تعلو طاولة قائدهم! فكانوا في لهوهم يلعبون! والمدفأة لم ينطفئ جمرها بعدُ كما لم ينطفئ جمرنا، يهربون من مواجهة الحقيقة كما تهرب الثّيران من قطيع السّباع..
أعمّم خبر تحرير حلب الجديدة؛ فيبكي متلقّي الخبر فرحاً! أستنشق عبقَ حلب الذي يفتقدهُ كلّ سوريٍّ. خلال ساعاتٍ تتحرّرُ حلبٌ وترتدي أثوابها الخضراء حيّاً حيّاً وشارعاً شارعاً، وأصغي إلى الزّغاريد التي تحيّنا.
أقرع الآن جرس بيتنا؛ يشبهني طفلٌ صغيرٌ يضيعُ بين الأزقّة فلم يبكِ حتّى عثر على باب بيته؛ فأطرقُ الباب وأبكي؛ تفتح أمّي الموصد من الآمال، وعليها (غطاء صلاتها) يهطلُ دمعها مسرعاً أكثر من هروب العدوّ حين لقائنا، ويحمل والدي عكّازه مهرولاً، أنهارُ على الأيادي مُقبِّلاً، أعانقهما معاً فتبتسمُ قائلةً:
– طولت غيابك يا عمري! كنت بعرف إنو الله بدو ينصرنا!
تنفض الغبار وتمسح الدّماء عن ثيابي، بينما يُخبرني أبي:
– مبارك ما إجاك! ولدت مرتك ولد متل فلقة القمر، رح سَمِّيه: (شاهين)