طفولة متأخرة

كانت تجلس على الشرفة تحمل بيديها كوباً من القهوة ، تتأمل النجوم وبلحظة لاحت لها الذكريات الأليمة في بالها
(ذهب)شابة في العشرين من عمرها تُعرف بجمالها الأخاذ وبشرتها القمحية وعينيها الحوراء الواسعة وثغرها البسام الكرزي التي تفتن عيون الناظرين ويستبشر المرء بجمالها خيراً،  تكاد تكون كلوحة فنية رسمها الخالق ،شعرها الحريري الذي غالبا ما ينسدل منه خصلاً ليداعب به وجنتيها الممتلئتين والغمازة التي تضفي عليه جمالاً أعجمياً
عادت بذكرياتها قبل تسعة أعوام كانت طفلة تلهو وتلعب وضحكاتها تتناثر بين هنا وهناك
في أحد أزقة مدينة دمشق كانت تقيم مع والداها وأخيها الأكبر سناً ،في احد ليالي الشتاء كانت تنتظرهم ليلة مكفهرة وأكثرها ضعفاً ،الساعة السابعة ليلاً ، أمها تحضر عشاء المائدة بانتظار زوجها الذي أخبرها انه لن يتأخر وسيحضر معه الحلويات المفضلة لابنته المدللة
عصفت رياح باردة ،أخفت دفء المائدة، زرعت أغصاناً شائكة ، هدفت لوجوه عابسة وحطمت قلوبها الساكنة ،فأرخت هواجس الليلة ظلمتها وأرعدت طفلتها وأسكنت الوجع بعائلتها عندما دخلت صديقة والدتها وأدخلت بعد الاستئذان رجلاً يلبس رداء أبيض ورفيق والدها ودوت الكلمات على مسامعهم سيكون شهيداً باذن الله أجهشت الأم بالبكاء وبدأت تردد حسبنا الله ونعم الوكيل وابنها خارجاً يغضب ويبكي ويصرخ ويردد اللعنة على هذا السافل بشار أما عن ذهب فقد كانت مندهشة لما يجري غير مصدقة الخبر حتى أدخلو عليهم جثمان أبيها والضمادات حول رأسه ملتفة بسبب الإصابة اقتربت من والدها وجلست قرب رأسه وعانقته للمرة الأخيرة وهي تعتصر ألمها قبلته وودعوه ليأخذوه ويُهلو عليه التراب لاكرامه
فور رحيل أبيها بدأت حياتهم من فورها بالتغير
ابتدأ دوي الطيران في المنطقة  وأخبروا الأهالي بالإخلاء، ذهب وعائلتها وعواصف قلوبهم وسرعة الأحداث عليهم أخرجوهم شباب المنطقة لمنطقة آمنة حتى يحين الصباح وليلتها كانت أول بداية لمعالم اليأس،
في الصباح الباكر أتى شقيق والدها متبلد المشاعر قاسي القلب أخذهم وبدأت معاناة العائلة فقد كانت تعمل أمها كالخادمة رغم حزنها على زوجها وكانت تقفز ورائها ذهب لمساعدتها فهي ترى المعاملة التي تنزل سوءاً عليهم، توارت سعادة العائلة وأوحشت، وكَبُرَتْ ذهب وكَبُر ألمها معها فهي غالبا ما كانت تشعر بالأمان
كل ليلة تحاول محاربة ألمها وفي النهاية تنزل باكيةً  بذكرياتها مع أبيها وتغرق في حزنها،فتتساقط أوراق أيامها حيناً بعد حين
وفي مرة أتاهم أخاها متحمساً أخبرهم أنه سيذهب لمنطقتهم القديمة ليحارب مع شباب المنطقة ويردُّ حق أبيه وينتقم له وبعد جدالاتٍ عدة رضخت الأم للواقع فكانت مقولته حينها(إما أن أقاتل أو أن يقتلوني كما قتلوا والدي) ودعت العائلة أخاها وبقيت المعاناة مستمرة مع شقيق والدها
وبعد فترة من المعاناة جاء عمها يخبرهم أنه تقدم خاطبا ليد ذهب دوت هذه الكلمات على مسامعهم كالصاعقة فكانت ماتزال في الثالثة عشرة من عمرها  وبدأ بالمراوغة وأن ذهب كابنته،وأردف قائلا أنه شاب خلوق متدين يدرس الفقه حَسُن المجلس وسيعتني بها ويراعيها ،لم يبق لهم أي كلمة لمناقشته والرفض، فقد كان يستشيط غضباً كلما سعى أحدهم بمناقشته ،يكسر ويلعن الأشياء ولا يبقي كلمة سوء بفمه،
مرت الأيام وذهب لم تر خاطبها بعد، فقد أخبرهم عمها أنه اختاره لها  وستراه يوم الزفاف .
أتى يوم الزفاف وتجمع بعضاً من أقاربهم الذين يتهامسون عندما رأوا ذهب البريئة رغم مساحيق التجميل  تكاد تخبئ معالمها، بعد جلَّ المعاناة والالم الذي مرت به ماتزال بهذا الجمال .
هنا بدأت الزغاريد ترتفع ودخل عليهم شاب يبدو عليه بأواخر الثلاثينيات كان يلون البياض بعضاً من شعره ولحيته،طويل القامة خشن القوام وما إن وقعت عيناه عليها افترسها بنظراته فقد كانت أشبه بالدمية أمامه انتهى الزفاف وودعتها والدتها وهي تكفكف دموعها وتوصي عليها زوجها .
ودعتهم وذهبت لبداية حياة جديدة في بلدة بعيدة
أدخلها ودخل وراءها تحولت ابتسامته لعقدة وضعها بين حاجبيه وأردف قائلا سيكون هذا مسكنك الوحيد وملجأي اليكِ أنزل هذه الكلمات وخرج وقفل الباب عليها ،دخلت وجالت عيونها في المكان بدلت ثيابها  وبقيت تنتظر قدومه وتفكر بأيامها وما حصل وما قد ينتظرها .
عاد اليها متأخرا ،وجدها نائمة كالملاك البريء لم يشفق عليها افترسها وافترس أحلامها الوردية ،
وبقيت على هذا الحال يستيقظ صباحا يفرض الأوامر وفي الليل يأتي مسعوراً إليها ،أصبحت حياتها متهدمة بعد هذا الزواج ومنعها عن أهلها ودراستها، كان يخبر أمها أن ذهب لا تريدكم ولا تريد محادثتكم خوفاً منه أن تتركه فقد كان متسلطا مهووساً بها .
في النهار كانت تشعر بالوحدة والعزلة وليلا يحاصرها واقعها ،وحملت مسؤولية اكبر من عمرها بعد أن كانت مدللة في كنف أبيها،أصبحت الآن يرثى لحياتها .
وفي مرة وجدت بمعطفه الذي أغدق عليها بأن تغسله على يديها وألا تخدشه  وجدت مسحوقاً أبيض بداخل كيساً شفافاً وبجانبه ثلاث حبات مختلفة الحجم ،هنا عرفت أن زوجها المتدين الخلوق أمام الملأ حَسُنَ المجلس متعاطياً للمخدرات ،ليلتها جاء والشرر بعينيه يريد ما وجدته بمعطفه ، أخرجته له وأردف قائلا أنه نوع أدوية وصفه الطبيب له وهنا بدأت معاناة من نوع آخر فبعدها لم يجعل لها أهمية وبدأ يتعاطى أمامها  وينتفض كالمجنون ينهال عليها بالضرب والشتم والسباب.
كانت تشعر انه وبرغم اتساع منزلها إلا انها أشبه بزنزانة مظلمة كل يوم كان يمضي ببطء مع ذكريات مؤلمة تعيشها وذكريات ماضية تحن إليها
حاولت المراوغة والتماشي مع واقعها ولكن كانت تتنازع مع نفسها  وفي عدة محاولات لها بأن تنتحر باءت محاولاتها بالفشل وتعرف أن مامنعها هو خالقها ،
وتذكرت أيام والدها أيام الطموح والأمل  والآن تجد نفسها محاطة بظلام وظلم زوجها
فقررت بداخل نفسها أنها لن تستمر بهذه الحياة وستبحث عن مخرج لها،
بدأت تتسائل وتفكر بالخطوات التي يمكن ان تخلصها من هذا الجحيم وتتخلص من عبوديته وضربه وسبابه وتحقق غايتها واستعادة كرامتها.
جاء اليوم الذي دعا به أصدقائه ليتعاقرون المشروبات المحرمة التي رأته يدخلها لصالة الجلوس ولعب الورق ولم تحتمل ذهب تلك المشاهد فقد أتى برفاقه لبيتها وهنا بدأت تفكر ،ومن شدة أنه كان مخموراً نسي هاتفه أمامها وخرج اليهم ،هنا اشتدت ضربات قلبها واخذت الهاتف ورنت على أخيها وأخبرته برؤوس أقلام ،
غضب أخوها وأردف : اهربي يا عزيزتي اهربي وسأحميكي اهربي وسأهتم بك وأراعاكي يا مهجة قلب أبيكي ،نزلت هذه الكلمات عليها واغرورقت عيناها بالدموع أخذت نفسها ولم يكن الباب مقفلاً يومها .
هربت ذهب هربت ولم تنظر خلفها  هربت وتركت وراءها الظالم ،هربت .
تواعدت معه بمكان ليأخذها ركضت حتى وصلت اليه عانقته أخذها لبيته هاتف والدته بأن تأتي اليه وانه الآن اصبح شابا يعتمد عليه
بقيت تروي له ماحدث معها وجاءت أمها وبدأوا يبكون تارةً ويتعانقون تارةً الى أن نامت ليلتها بأحضان والدتها وأخيها .
استعادت ذهب حريتها وأكملت دراستها ،شاركت بمنظمات لرعاية حقوق المرأة ومنع زواج القاصرات …
(يجب أن تعي الأهالي ما تفعله وأن زواج القاصر يسبب للبعض منهم حالات نفسية وغالباً ما يؤدي للانتحار)

Loading

تقيم هذه القصة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top