تبدأ قصتنا مع الطّفلة روح…
روح وأُسرتها يُقيمون في قريةٍ صغيرةٍ.
توفيت الأُمُّ عندما كان عمرُ طِفلتها رُوح يُقارب الثَّانية عشرةَ، فَأَصبَحَت مَسْؤُولِيَّة رُوحٍ عَلَى الْأَبِ، حَيْثُ لَمْ يَسْمَحْ لَهَا بِإِكْمَالِ تَعْلِيمِهَا، قائلًا: “يَكفِي ما تَعَلَّمْتِهُ من القراءة والكتابة، يجب على كُل فتاةٍ أَنْ تلتزمَ بيتَ أَبِيهَا ليأتي نصيبُهَا”.
نعم، أعلمُ أننا جميعًا عائدونَ إلى الله.
أومأَ الجدُّ برأسهِ قائلًا: “أصبتِ ما في قلبي”.
وبعدَ لحظةِ صمتٍ، استجمعَ شجاعتَه وبدأَ الحديثَ دونَ مقدماتٍ: “يا ابنتي، ليلةَ البارحةِ وقعتْ مجزرةٌ في القريةِ. استشهد معظمُ منْ فيها، ولم ينجُ سوى عدد قليل منَ العائلات… وأبوكِ كانَ منْ بينِ الضحايا.”
شعرتْ روح وكأنَّ الأرضَ تميدُ من تحتِها، ووجهها شحب، لم تتحملْ وقعَ الكلماتِ، فأُغمي عليها وسقطتْ على الأرضِ. حملَها الجدُّ، وأخذَها إلى بيتِ عائلةِ قمرٍ، لأنَّه أدركَ أنَّ البقاءَ في تلكَ القريةِ يعني مواجهةَ الخطر. ولحسنِ الحظِّ، كانتْ عائلةُ قمرٍ وأروى في زيارة لقريةٍ أخرى.
عندما استيقظتْ روح، كانت عاجزة عنِ النطقِ لشدةِ الصدمة التي أصابتها. بقيتْ يومينِ في حالةِ صمتٍ.
استمرتْ حالتها النفسيةُ السيئةُ لثماني سنواتٍ، وخلالَ تلكَ السنواتِ، كانتْ روح تحاولُ تجاوزَ ألمِها عبرَ الانشغالِ بالدراسةِ. التحقتْ بالجامعةِ وبدأتْ دراسة الطبِّ. بقيتْ معَ صديقتها قمر ووالدتِها، التي كانتْ تعاملُ روح وكأنها ابنتها. رفضتْ قمر أنْ تتركَ روح تعيشُ وحدَها.
عندما أنهتْ دراستَها، بدأتْ تَعمل طَبيبة في مستشفياتِ المدينةِ. كانَ ذلكَ إنجازًا عظيمًا، بالرّغم من طفولتها القاسية وكلِّ تلكَ الظروف التي مرتْ بها، أصرتْ روح على السيرِ خلفَ حلمِها.
في يومٍ عاديٍّ مِنْ عَملها، استقبل الْمُسْتَشْفَى الَّذِي تَعْمَلُ فِيهِ حالةً طَارِئَةً، جَاءت سيَّاراتُ الإسعاف محَمَّلةً بِجثثٍ وَأَشْخَاصٍ فِي حَالة حرجةٍ، يَلفظون أَنْفَاسَهُمُ الْأَخِيرَةَ. كَانَتِ الْحَادِثَةُ نتيجة سُقُوط طائرة حَيْثُ فَقَدَتْ توازُنها أثناءَ الطَّيران بِسببِ الضَّغطِ الجويِّ.
هبَطتِ اضطرارِيًّا، لَكِنَّ ذَلِك الْهُبُوط كان كارثيًّا.
رُوح، الَّتِي كانت تقُومُ بِواجبهَا، بدأَت بِمُسَاعدة الْمُصَابِينَ، وَتَمَّ تَسليمُهَا حالةً لِتُشْرفَ عَلَى عِلاجِهَا.
تقدَّمت إِلَى الغرفَة. وإذا بميثم على السرير غارقًا بدمائهِ.
تجمدت فِي مَكَانِهَا، وَامْتَلَأَتْ عَيناهَا بِالدُّمُوع، حَاولت أَنْ تتمالك نفسها.
نادتها الْمُمرِّضةُ: “يَجِبُ أَنْ نتحرك، إِنَّهُ ينزفُ”. استَجمعَتْ رُوح قُواها، وَبَدَأَتِ الْعَمَلَ عَلَى تَضْمِيدِ جُرُوحِهِ الْكَبِيرَةِ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تستطع كِتْمَانَ دُمُوعها الَّتِي تَنهمر مع كُلِّ حركةٍ تقومُ بِهَا.
انْتَهَتْ رُوح مِنْ تَقْدِيمِ الْإِسْعَافَاتِ الْأَوَّلِيَّةِ.
بَعْدَ أُسْبُوعَيْن من تواجُدهُ في المُستشفى استقرت حالتهُ الصحية.
استيقظ مِيثم وَنادى على الممرضة، جَاءَتْ تَركضُ عندمَا سَمِعَتْ صَوْتَهُ، وَدخلت الْغُرْفَةَ، نظرت إِليهِ. كانت حالتهُ طبيعيَّةً…
عرفها ميثم من أول وهلة، باح بما يشعر تجاهها، ثم تقدم للزواج بها، تزَوَّجُا، وأنجَبت فتاةً اسمَتها بحر.
أَبِي، أَرجُوكَ، دَعنِي أُكملُ تَعلمي.
قُلتُ: لا.
أَرْجُوكَ، أَبِي أَعِدْ النَّظَرَ فِي كَلَامِي.
موافق، لكنْ بِشرطٍ.
ما هوَ؟
إِنْ جاءكِ شَابٌّ يتقدَّمُ لخطبتكِ حَتَّى وَإِنْ لَمْ تَنتَه من تَعلِيمَكِ بَعدُ ستوافِقِينَ.
أَرادت أَنْ تُخالف رأي أبيها لكِنَّهُ لَمْ يُعطِهَا مجالًا.
فَاضت عَينَاها بِالدُّمُوعِ وهَزَّت رأسها بِمَعنَى الْمُوَافَقَةِ.
مضتِ الأيَّام، ولم يأتِ أَيّ شاب لخطبتِها، فأَكمَلت حِفظ القرآن. كانت رُوح في جامعِ القريةِ مَعَ صديقتيها أَروىٰ وقمر، حينَ انتهَىٰ درس القُرْآن، خرجنَ معًا، عندَما اقتربت رُوح من طريق منزلها، توقفت فجأَةً.
ودَّعتهما، شَعرتْ وكأَنَّها لن تراهُمَا مَرةً أخرىٰ.
سأَلتها قمر: “ما بكِ أَيوجد شيْءٌ؟”
لَا، ولكنَّني أَشْعُرُ بِأَنْ هَذِهِ اللَّحظة هي الْأَخيرةُ الَّتي تَجمعُنا.
رَدَّت أروى مُسْتَهْزِئَةً: “بالله، ما هذا الْهُرَاء؟ سنَبقىٰ معًا مَهما حدَث”.
احتضنتها قَمر وقالت: “لا تخافِي، ثقي بِأَنَّه لا شيء سيُفرقُنَا”.
عَمَّ الصَّمتُ، ثُمَّ أَخذَت كلٌّ منهنَّ طرِيقها.
وصلتْ روح لمنزلها، فوجِئَتْ بأَشْخَاصٍ لَا تَعْرِفُهُمْ يَجْلِسُونَ فِي غُرْفَةِ الضُّيوف، ذَهبت لَغُرفتِها وأغلقت الباب.
ناداها أَبُوهَا.. لم تُجِب. دخل لغُرْفَتِهَا، وَقال: جَاءَ شَابٌّ لخطبتكِ حَضِّرِي نَفْسَكِ.
أَبِي، أَخْبِرْهُمْ بِأَنَّنِي صغيرة، ولَدَيَّ أَحْلَامِي لم أحققها بعد.
غضب والدُها كثيرًا، وقالَ: “لَا يُوجَدُ للفتاةِ حُلمٌ، ولن أَسمحَ لكِ بِأَنْ تحلمِي بأشياءٍ سخيفَةٍ”.
قالت بِصَوتٍ مُرتفع: “لنْ أَسمحَ لكَ أَنْ تقُولَ أَنَّ أَحلامِي سَخِيفَةٌ!”
نَفِدَ صبر الأَبِ وضربها، فسقطت أَرضًا، وخرجَ منَ الغُرفة.
بَقِيَتْ رُوح مُسْتَلْقِيَةً عَلَى الْأَرْضِ، غَارِقَةً فِي دُمُوعِهَا.
ناداهَا أَبوها مرةً أُخْرَى، فحضَّرت نفسها تجنُّبًا لغضبهِ.
دخلتْ حيثُ يَجلسون، وأَلْقَتِ السَّلَامَ، وَجَلَسَتْ قُرْبَ أَبِيهَا، كَانَ هُنَاكَ مَيْثَم، شَابٌّ فِي العِشْرِينَ مِنْ عُمُرِهِ، وَوَالِدَاهُ جَالِسَانِ فِي زَاوِيَةِ الْقَاعَةِ، نظَرَ ميثم إِليها… فتاةٌ كالمَلائكة نحيلةٌ، طوِيلةٌ، عَيْنَاهَا عَسَلِيَّتَانِ كَأَنَّهُمَا غَابَةٌ.
جَلَسَ بِالْقُرْبِ مِنْهَا، وبدأ بالحديث: “كَيْفَ حَالُكِ؟”
لَسْتُ فِي حَالٍ جيِّدةٍ… ولا أُرِيدُ الزواجَ في هذا السن.
لكنَّ الزَّواج ليسَ نِهايتكِ، بل قد يكونُ بداية جديدة.
أُرِيدُ أَنْ أُحقِّق أَحْلَامِي.
أَثَارَ كَلَامُهَا فُضُولَ مَيْثَم فَسَأَلَ: “هَلْ ُيمكنكِ إِخبارِي عنها قليلًا؟”
بِالطَّبع أحلمُ أَنْ أصبح طَبِيبَةً، لَكِنَّ أَبِي وكلَّ من فِي القرية يعارِضون فِكرة تَعليم الفتاة.
صمتَ ميثم قَلِيلًا وقالَ بعد تفكيرٍ: “لنْ أتزوَّجكِ، وسأُحدِثُ أَباكِ بِشأْنِ دِراستكِ لعَلَّهُ خيرٌ”.
نظرت إِليهِ بِدهشةٍ، تلعثَمتْ في الكلاَمِ وَقَالَتْ: “أَنَا لَا أَعْرِفُ مَا أَقُولُ. أَظُنُّ أَنني سأَطيرُ فرحًا”.
ضَحِكَ مَيْثَم وقال: “لَا داعي للشكر”.
انْتَهَى الْحَدِيثُ بَيْنَ مَيْثَم وروح.
استَأْذَنَتْ رُوح والدَها بِالخُرُوجِ وذهبتْ لغُرْفَتِهَا.
بعد ساعة ذهبَ ميثمُ وأَبُوه.
استَلْقَت عَلَى سَرِيرِهَا تَرتاح، فَغَلَبَهَا النَّوم.
عِندَمَا اسْتَيْقَظَتْ، سَمِعَتْ طَرقَاتٍ عَلَى البَابِ.
خَرَجَتْ، فرَأَت وَالدهَا يَسْتَقْبِلُ مَيْثَم، وَيُدْخِلُهُ إِلَى غُرْفَةِ الضُّيُوفِ.
بَدَأَ مَيْثَمُ حَدِيثَهُ بِحَزْمٍ، “يَا عَمِّي، أَنَا لَا أُرِيدُ الزَّوَاجَ مِنْ رُوح. هِيَ فَتَاةٌ مدْهشةٌ، لكنها ما زَالَتْ صَغِيرَةً عَلَى عَبْءِ الزَّوَاجِ، وَأَعْتَقِدُ أَنَّ مِنْ حَقِّهَا أَنْ تُكْمِلَ دِرَاسَتَهَا”.
قَاطَعَهُ وَالِدُ روح قَائِلًا: “لَا تَتَدَخَّلْ فِي حَيَاةِ ابْنَتِي، إِنْ كُنتَ لَا تُرِيدُ الزَّوَاجَ مِنْهَا فَهذَا شَأْنُكَ. أَنَا مَنْ يَقْرِرُ مَصِيرَها”.
أكملَ ميثَم حديثهُ: “الحياة قصِيرة وَكُلُّنَا لهُ نهايةٌ، وما زالت رُوح فِي حاجَةٍ إِلى تَكوين نَفْسِهَا”.
نَظَرَ وَالِدُ رُوح إِلَى مَيْثم بصمت. وَبعد مُحَاوَلَاتٍ عِدَّةٍ مِنْ مَيْثَمَ، استسلم وَالِدُ رُوح فِي النِّهَايَةِ وَأَعْلَنَ قَرارهُ: “حَسَنًا، سَأَسْمَحُ لَهَا بإكمال دِرَاسَتِهَا”.
ابْتَسَمَ مَيْثَمُ وَشَكَرَ وَالِدَ رُوح عَلَى قَرَارِهِ. كَانَ مَيْثَمُ يَفْكِّرُ فِي التَّحَدُّثِ مَعَ رُوح لِيُشَارِكَهَا هَذَا الْخَبَرَ السَّارَّ، وَلَكِنَّ مَكَالَمَةً هَامَّةً فَاجَأَتْهُ وخْرُجُ مُسْرِعًا.
دَخَلَ وَالِدُ رُوح إِلَى غُرْفَةِ ابْنَتِهِ لِيُخْبِرَهَا بِقَرَارِه.
مِن صَباحِ الغَدِ، اذهَبي لاختيارِ مَدْرَسَةٍ جَديدةٍ.
فَوجِئَتْ روح بِكلامِ والدِها، احتَضَنَتْهُ بِكُلِّ قُوَّةٍ، ثُمَّ قالَتْ لَهُ جُمْلَةً هَزَّتْ جَبَروتهُ: “أنتَ بَطَلي العَظيمُ!”
تَسَلَّلَتْ لقَلْبِهِ مَشَاعِرُ النَّدَمِ، اختَتَم حَديثه بتَنهُّد.
فِي صَباحِ اليَوْمِ التَّالي، ذَهَبَتْ روح وَصَدِيقَتَاها إِلَى المَدِينَةِ لِاخْتِيَارِ المَدرسة الأَنْسَبِ لَها. أرادت روح أن تشكر ميثم عَلَى ما فعلَهُ معها
ذَهَبَتْ إِلَى مَكَانِ عَمَلهِ، كَانَ يَعْمَلُ فِي مَطْعَمٍ. وَعِنْدَمَا وَصَلَتْ، فُوجِئَتْ بِرُؤْيَةِ لافتة مَكْتُوب عَلَيْهَا “المَحَلُّ لِلْبَيْعِ”.
حَزِنَتْ كَثِيرًا؛ لِأَنَّهَا لَا تَعْرِفُ أَيْنَ يَسْكُنُ. كُلُّ مَا كَانَتْ تَعْرِفُهُ هُوَ اسْمُهُ وَعُمْرُهُ وَمَكَانُ عَمَلِهِ فَقَطْ.
غَيَّرَتْ وِجْهَتَهَا إِلَى القَرْيَةِ لِتَعُودَ مَعَ صَدِيقَتَيهَا.
بَاتَتْ روح وَصَدِيقَاتُهَا فِي بَيْتِ جَدِّ قَمَرَ فِي المَدِينَةِ، انْتِظَارًا لِصَبَاحِ اليَوْمِ الجَدِيدِ، لِلعَودة إِلَى القَرْيَةِ.
وَلَكِنَّ روح لَمْ تَكُنْ تعلم مَا يَحْدُثُ فِي قَرْيَتِهَا.
فَفِي السَّاعَةِ الوَاحِدَةِ لَيْلًا، هَاجَمَتْ عِصَابَةٌ كَبِيرَةٌ القَرْيَةَ لِسَرِقَةِ مَحْصُولِهَا. حَاوَلَ أَهْلُ القَرْيَةِ الدِّفَاعَ عَنْ رِزْقِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ فَشِلُوا، استشهد مُعْظَمُ سُكَّانِ القَرْيَةِ دون مالِهم، وَسُرِقَتْ المَحَاصِيلُ الزِّرَاعِيَّةُ. وَمِنْ بَيْنِ الشهداء كَانَ وَالِدُ روح… كان أَحَدَ الضَّحَايَا فِي ذَلِكَ اليَوْم!
فِي صَبَاحِ اليَوْمِ التَّالِي، كَانَ الجَد يُنادي الفَتيات كَيْ يَسْتَيْقِظن وَيُجهّزن أَنْفُسَهُنَّ لِلرَّحِيلِ. وفِي طَرِيقِهِمْ، لَاحَظَ جَدُّ قَمَرَ أَنَّ الطَّرِيقَ مُغْلَق.
استَغربَ وذَهَبَ إِلَى مَكَانٍ فِيهِ بَعْضُ الأَشْخَاصِ لِيَسْتَفْسِرَ عَنْ السبب. شعرتْ روح بأنَّ هُناك مصيبةً تَنتَظرها، عادَ الجدُّ بملامح غريبة، اقتربَ منْ روح وربَّتَ على كتفها برفقٍ، محاولًا تهدئتَها قبلَ أنْ يُطلقَ ما يختلجُ في صدرهِ.
ابنتي، تعلمينَ أنَّ هذه الحياةَ لا تبقى لأحدٍ، أليسَ كذلك؟
تزَوَّجُا، وأنجَبت فتاةً اسمَتها بحر.
الكاتبة: ريان رحمو الشهابي