“في يومٍ من الأيّام ستفعلُ لي شيئاً كنتَ تكرههُ طوالَ عمرك، هكذا تكون العائلة “
القلوبُ في الأماكنِ الدافئةِ لا تتُوه، لكِن ماذا لو أصبحَ منزلك الدافئ شبيهاً ببرودةِ أيّام الشتاء القاسية؟!
أنْ ترفضكَ أرضه التي قد زرعتَ بها كلَّ أحلامك ولا تزال تنتظرُ وروداً وإن كانَت باهتةَ اللونِ خاليةَ المشاعرِ ….
أن تنتظرَ حكماً عادلاً كانَ لابدّ أنْ يكونَ موجوداً بلا شروط وأنْ تكافحَ وتحاربَ في معركةٍ ضبابيّةٍ لا تعرفُ إن كنتَ عدوّاً أم صديقاً؛ وأنتَ في داخلِك مُدركٌ أن جيشَك الوحيد أسرتُك، فكيفَ تفعل؟!
فيظلّ قلبك يحملُ أثقالاً مترسبة في الأعماقِ محاولاً أنْ يبتعدَ عن الآخر بأيّ طريقةٍ، فتتلاشى أصداءُ كلماتٍ وذكرياتٍ نائية والعيون تعكسُ فراغاً ممتداً.
ولكن رغمَ الصراع يبقى صوتُ الأسرة عندما يضحكُ الجميع في نفسِ اللحظةِ أجملَ صوتٍ يستحقُّ أن يكونَ صورةً خالدةً تعلّقُ في منتصفِ القلبِ، ويبقى أثرها على جدرانِ المنزلِ كشاهدٍ وحيدٍ على قصصٍ لاتُحكى؛ يحملُ في كلّ حجرةٍ منه ذكرياتٍ وأحلاماً تتّسع الفضاءَ، بعضُها موجعٌ وبعضُها الآخر يبعثُ الشغف.
عندما ترى منزلاً كهذا لابدّ لكَ أن تجدهُ مُحاطاً بأشجارٍ كثيفةٍ خضراء، وتصادف بداخلهِ أنواراً خافتة، ضجيجاً اعتيادياً وحياة كاملة، والأجمل إيجادك لعائلةٍ تسكنهُ وتنتمي إليهِ انتماءً أبديّاً…
عندما تُشرقُ الشمس وتتسلل من إحدى نوافذه الناصعة يبدأ يومٌ جديدٌ، روائح شهية وخططٌ متكررة، لكن هذه المرّة ستتجددُ الخطط.
قرّر الابنُ الأكبر أثير ذو الثلاثة وعشرين عاماً أن يكونَ هذا اليوم مميّزاً عن باقي الأيّام، فجلبَ لوحةَ شطرنج خشبيّة متميّزة بحروفِ الأبجدية؛ حيث وضعَ كلَّ حجرٍ في مكانهِ الخاص وبدأ بشرح قواعدِ اللعبة، تردّد أفرادُ الأسرة في البدايةِ لكنْ سُرعانَ ما اجتمعوا حولَ طاولةٍ عتيقةٍ متصدّعةٍ وقد تحوّلَ هذا الترددُ إلى تنافُسٍ قوي بين الأفراد.
خطوةٌ تليها خطوة ….
لكن فجأةً تبدّلتِ القواعد وتحوّلت اللعبةُ إلى ساحة عاطفيّة كشفَتْ حقائق لم تكن بالحسبان!
عندما حرّك أثير حجرَه الأوّل ظهر فجأةً أمامَ عينيهِ شريطٌ من الماضي تمرُّ فيه صورٌ مختلفة كفيلمٍ سينمائي على عيون الأسرة؛ تشرحُ كيف كان يصلي في المسجد بخشوعٍ وسكون، يقرأ القرآنَ بصوتٍ مأنوسٍ، لكن سرعان ماتحوّل هذا الالتزام إلى صراعٍ طرفاه إدمانُ المخدرات وعلاقةٌ عاطفية أبقتهُ ضالاً طريقه لفترةٍ طويلة، ينبّشُ عن مأوى يحتفي بهِ بعد كل هذه الآثام.
الجميعُ راقب ما حصل بصدمةٍ ولم يستطيعوا منعَ أنفسهم من الأسئلة… كيف؟ وأين؟ لماذا لم تُخبرنا؟
صمتَ أثير وغرقَ في أفكاره وشعر بأنّ الكلمات قد تخونهُ أيضاً…
دفعتْ الابنة مريم صاحبة العشرين عاماً حجراً آخر متجاهلةً ماعرفتهُ عن أخيها، فانبثق من الحجر ضوء ٌمشعٌ يُبدي لياليَ سوداء مديدة، بينما مريم قد أمضَت كلَّ وقتِها تفكّرُ بشاب غريبٍ وقد أخفَت مشاعرها مخافةَ الرفض والخِزي، تهدرُ ساعاتٍ قيمةً وأيّاماً في التفكير، تتأمل، تنتظر، تدعو الله أن يهديها سُبُل الخير.
عظُمت الأسئلة وازدادَت نظراتُ الغضب والاستياء.
هربت مريم بعينيها إلى السقفِ ضائعةً في تأملاتها؛ تفتشُ عن درعٍ تتوقى فيه من نظراتهم الحادة التي تتوعّدُ بعقاب بئيسٍ!
ارتبكَ كلٌّ من الأب والأم بسبب اقتراب دورهم، نظرت الأم إلى زوجها نظرات منتظمة تحثّه على البدء، فحرّك الحجر ببطءٍ شديد؛ وملامح وجهه تعكسُ توتّراً واضحاً، تجاوزتْ دقات قلبه المعدّل الطبيعي، تسرّب القلقُ إلى عقلهِ كعاصفةٍ، فظهرتْ صورةٌ لهُ مع امرأة أخرى موضحة خروجهُ معها، ضحكاته معها، ثم انفجرَت الصورة الأكثر ألماً وهو ذاكَ اليوم الذي بقيتْ فيه العائلة لفترةٍ طويلة بلا مالٍ بسبب هدية باهظة الثمن قد اشتراها لصاحبته.
كان كابوس الخيانة ناراً أشعلَت خيوطَ الأملِ بين الأسرة، تساءلَت الأمُ كيف خانها بعد كل هذا الحبّ والعَطاء؟!
أدركَت أنّ كلَّ كلماتهِ اللامعة ليستْ سوى طلاء يلوثُ نقاءَ قلبها، ابتسمت ابتسامة عجزٍ ووهنٍ والدموع تُذرف من عينيها.
لا تصدق لكنّها الحقيقة،
حرّكت حجارها بسرعة وكأنّها تبحثُ عن خيانةٍ قد قامت بها لكي تنتقمَ منهُ، فظهرت صورةٌ سوداء تمثلها ثم انكشفَ فراغ كبير في المنزل؛ وعيونٌ غائبة تبحثُ عن السكينة والوصال وصورةٌ مشوشة تُفصحُ عن كلماتٍ جافة إنْ سمعتّها الأذن تتمنّى أن تُصابَ بالصممِ، لطالما كانتِ الأم هي الملجأُ الوحيد لجميع أفراد العائلة لكن سرعان ماغرقتْ في همومها متخفيةً خلف واجباتِها فتجاهلَتْ مشاعرَ أطفالها واهتمّتْ في شؤونها الخاصة؛ متناسيةً أنها بحاجة أن توازن بين واجباتها وعطائها لكلِّ مَن حولها وما تريده لنفسها.
نظرَ الأفرادُ كلٌّ منهم إلى الآخر وكأنّهم يترقبون مَن يبوح بهذه الحقيقة يوماً!
في كلّ حركةٍ هناك سرٌّ من الماضي يُكشَف وكأنّ رقعة الشطرنج هذه بأحجارها قد تحوّلتْ إلى لعبة الحياة التي يعجزُ الكثيرُ عن لعبها؛ تضمُّ الكثير من الجولات العاطفية والعقلانية وتحتاج خططاً واستراتيجيات تواكب العقل والأحاسيس.
أخيراً جاءَت الفتاة الصغيرة هُدى من المدرسة لترى الجميع في مشهدٍ ثابتٍ يوحي بالفوضى والتوتر، جلسَتْ قربَ أمها وهي تتساءل عمّا يحدُثُ، فطلبت منها مريم رغم صغر سنّها أن تحرّك حجراً ربّما تظهرُ صوراً جميلةً تُزيلُ تلك الصور العنيفة من ذاكرتهم!
غمرتْ عينيها حماسةٌ، حركت حجراً بيديها الصغيرتين كما تحرّك ألعابها؛ فظهرتْ صورٌ جميلة مليئة بالدُّمى الملوّنة.
ابتسم الجميع..
ماذا ينتظرون من عالم مليءٍ بالبراءة والعفوية بعيداً عن تعقيدات الحياة؟!
لكن قد ينهدمُ هذا العالم؛ فالصورة التالية أوضحتْ حالة هدى وهي تبكي لوحدها بعيدة عن أمها المشغول، وعن أبيها الذي يقضي طوال وقته في مكتبهِ ثم يعودُ إلى سريره متعباً، وأخوتها وكلّ منهم منهمكٌ بأموره الخاصة، حدّقتْ هدى بِحيرةٍ إلى عائلتها تنتظر جواباً تفهمهُ لكن بلا جدوى.
انتهت هذه اللعبة المشؤومة بفوز مريم.
احتدمَ النقاش وأُزيل غطاء الأسرار، كيف لملاذٍ دائم آمنٍ وسط زحام البشر القاسي أنْ يتحوّل إلى جرحٍ ينزفُ طوالَ العمر، فتشتعل المشاعر ويبقى منها رمادٌ يغطي كل فرد، مظهراً له صورة أخرى لا ترحم…
” أنا غير مرغوب بي”
“أنا غير موجود “
باتت هذهِ الحقائق كافية لتدمّر كيانَ الأسرة وتحطم القلوب، تُرى هل سيجتمعون مرةً أخرى على ذاتِ الطاولة بمحبة وإخلاص؟!
لا شيء يُنسي جروحَ الماضي سوى الأمل، هو من سيخيطُ الجراح القديمة، الأمل هو الذي سيذكِّر كل فردٍ بتلكَ الأمسية الدافئة؛ مهما تعددّت الفصول الأسرية بين حزن واشتياق وحبّ، لكن كل الأماكن لن تصلح أن تكوِّنَ انتماءً حقيقياً لك سوى أسرتك.
الكاتبة: صفا وليد الجاسم.