تمسح ليلى الأرض التي امتلأت دموعًا وقهوة، وقلبُها محطَّمٌ كالفنجان الذي أمامها، زوجها جابر محمرّ الوجه، يأكل السيجارة أكلًا، عيناه تقدحان الشرر، أما الأولاد فهم في حالة استنفار تحت فراشهما، “كعادته أبي يغضب لأي سبب سامحه الله!”
ضُرب باب البيت، فاشتد غيظ جابر: “من هذا الأحمق؟!” لم يكمل كلامه حتى كان الباب مكسورًا؛ دخل الجنود كضباع مفترسة تنقضُّ على فريستها، جرُّوه بعد أن غطَّوا رأسه بقميصه، “من أنتم لقد أخطأتم العنوان ما هي تهمتي؟!”
عج البيت ولم يدر أحدٌ ما الذي يحصل، ليلى ترتجف لم تعد قدماها قادرتين على حملها جثَتْ على ركبتيها، “أرجوكم اتركوه، زوجي لم يقصد إهانتي، أرجوكم لقد سامحته، أرجوكم اتركوه”.
نظرةُ الملازمِ (جعفر سليمان) إليها بعينيه المتورِّمتَين كانت مخيفة، والحمد لله أنَّ اتِّصالًا قطع ابتسامته الشيطانية فمضى فورًا، دفع أحد الجنود الولدَين اللذَين تعلَّقا بأبيهما بكلّ قوتهما وكأنهما يواجهان إعصارًا متى أفلتت أيديهما كان مصيرهما الهلاك، الجيران جفّ الدم في عروقهم؛ هذه أوّل مرة يسمعون رجلًا ينزل عن الدرج كما تنزل الكرة!
ركب الملازم (جعفر) سيّارته وانطلق وقد رسمت العجلات خَطًّا طويلًا خلفه.
رمى الجنودُ جابرًا داخل السيارة كالخرقة البالية، وكانوا غاضبين لأنَّ الملازم جعفر لم يعطهم وقتًا لاصطحاب زوجة جابر الذي كان يتمتم بصوت ثقيل ونفس ضيّق: “لا لا دعوها” حتى وضع أحد الجنود قدمه على فمه وأغلقه.
في مركز السجن رُمي جابر من السيارة دفعًا بالأقدام، وأمسك جنديان كل واحد بإحدى قدميه واتَّجها به إلى الزنزانة.
فتح جابر عينيه وإذا بيد تمسح وجهه، عجوز اختلط بياض شعره ولحيته بسواد القهر والظلم، هزيل الجسم شاحب الوجه، تغطي جسمه قطعة قماش كأوراق الخريف البالي، كم كانت تلك اليد رحيمة رغم شقائها! وكم كانت كريمة رغم فقرها!
نظر إلى السقف فإذا هو مليء بالدم “يا إلهي أين أنا هل قامت القيامة هل أنا من أهل النار؟!” همس العجوز: “بني أنت لست في بيتك، أنت في السجن، إذا سمعوا صوتك فستحسد الجرذان على معيشتها”.
ساعده العجوز فأسند ظهره على الحائط الذي كان مليئًا بالدم والقيء والنتن، كأنه لوحة لمعركة لم تبق ولم تذر، ومن حسن حظه أن وجد مكانًا للجلوس، فالجنود أخذوا السجناء قبل قليل لمهمة وتركوا العجوز وبعض السجناء، الذين باتت أجسامهم تتبرأ منهم.
“لماذا أنت هنا يا عم؟ أنت رجل طيب محترم يفيض عطفاً”.
تنهد ودمعت عيناه: “عرض علي اللواء (حيدر معلا) أن يشاركني في مصنعي فرفضت؛ فهو إرث أجدادي ورزق أولادي وأحفادي، فألح علي فلمّا رأى امتناعي، اقتحم بيتي بتهمة تزوير العملة -بكى وخفت صوته- ضربوني وشتموني فلم يتمالك ابني نفسه حاول دفعهم فجرُّوه معي إلى هنا، ولحسن الحظ أن ابنتي وزوجتي كانتا خارج المنزل، وإلا لكنت سمعت أصواتهما في الليل تتوسلان للجنود أن يبتعدوا عنهما، آه يا بنيّ بَعُدنا عن ديننا وانشغلنا بدنيانا فأخذنا الله بالعذاب علنا نرجع له -اشتد بكاؤه- لقد رأيت البارحة رؤية أعوذ بالله منها” كان يتحدث ويراقب باب الزنزانة ينتظر عودة السجناء بلهفة، تمنى جابر وضع يده على كتفه ليخفف عنه فما استطاع رفعها.
نظر جابر لرجل مغمًى يعلوه جلد أسود متنفخ يئن “بنيتي بنيتي فلذة كبدي وقرة عيني”. – “ما شأن هذا يا عم؟” – “أما هذا يا بني فقد أحضروه من تسعة أيّام وقد ذكر لي أنه كان يجهّز ابنته لعرسها، كان فرحه شديدًا؛ اختار لها زوجًا من خيرة الشباب دينًا وخلقًا؛ رفض تزويجها من ابن الوزير (عزّام هولا) الذي طلبها مرارًا فتوعَّده… البارحة أخذوه ثم أعادوه على هذه الحالة، نظر جابر حوله فإذا سجين بقدم واحدة، وآخر يخرج الزبد من فمه، ورائحة المكان تتغلغل في الأجساد كسمّ زعاف يقتل ببطء، صمت فينة من الوقت ثم حوقل: “كم كنت في نعمة فلم أشكرها، كم كنت سفيهًا أغضب لأي أمر وأملأ الدنيا ضجيجا، سامحيني يا زوجتي حفظكم الله يا أولادي، يا إلهي متى سأخرج من هنا؟”.
فُتح باب الزنزانة ودخل السجناء يجرّون أقدامهم، تكاد أنفاسهم تنقطع وقد امتلأ ما بقي من ثيابهم بنجاسة المجرورات التي كانوا ينظفونها، بدأ العجوز يبحث بقلبه عن ابنه بينهم، “أين ابني؟” فأخبروه أن الملازم (جعفر) جاء بيده زجاجة عرق، فأشار بإصبعه إلى ثلاثة سجناء، ابنه وشابّ كان يخرج في المظاهرات، وجنديّ وُجد يصلي في ثكنته العسكرية -يناديه السجان الإرهابي- “إن الواجب الوطني يناديكم”.
بعد قليل عاد الملازم (جعفر) واضعًا كمّامة، “لقد جاءت مجموعة إرهابية فقتلتهم ثم أحرقتهم، ضحى زملاؤكم بأرواحهم في سبيل الوطن” ثم قهقه قهقهة لا تشبه قهقهة البشر أبدًا، وهو يضرب بيده اليمنى على رتبته العسكرية.
سمع العجوز كلام السجين ” يا إلهي إنها الرؤيا، لم يخطئ حدسي أبدًا”، وشهق شهقة كانت هي الأخيرة في حياته.
لم يصدق جابر ما رأت عيناه، “سيدي سيدي لا تتركني أرجوك، زوجتك وابنتك تنتظرانك”.
ثم فُتح باب الزنزانة وأدخل الطعام، بيضة ورغيف لكل ستّة أشخاص، قسم السجناء البيضة بأيدهم، فامتزج لونها بلون أيديهم، حتى صارت قطعًا سوداء، كانوا كالأموات عظامهم تكاد تخرج من أجسادهم، نظر جابر إلى السماء بعينيه وقلبه وبجميع جوارحه، ضارعًا لله يناجيه بدعاء المضطر.
يسمح لهم بساعة نوم واحدة، رنّ الجرس ففتح جميع السجناء عيونهم دون استثناء، ثم فُتح باب الزنزانة “تفضل سيدي القاضي” شعر جابر أنه ولد من جديد، “إنه القاضي سأخبره بما فعلوه بي، سأخبره بقصة العجوز وبكل ما علمت لن أسكت عن شيء”.
وقف القاضي أمام الباب كان أسمرَ قصيرًا سمينًا حاجباه ثخينان عيناه مخيفتان تكادان تخرجان من وجهه، “من يذكر اسمه فليعلم أنّ الواجب الوطني يناديه”، وقهقه قهقهة ما أشبهها بقهقهة الملازم (جعفر)، فعلم جابر أنّه قاضي الموت.
صاح القاضي: “محمد قاسم، جابر بركات” نسي جابر اسمه عندما سمعه “أنا… أنا لست جابر، بل أنا جابر ولكن أرجوكم لم أفعل شيئًا، ما هي تهمتي؟!” صار يتمتم بما لا يعلم.
جرُّوهم للمحاكمة، وضع الملازم (جعفر) المسدس في رأس (محمد) وأطلق النار، ثم قهقه وقهقه الجنود وهم يرددون: “فداء للوطن”، ثم وضع المسدس في رأس جابر، “إنها الأنفاس الأخيرة، لن أرى عائلتي”، جال فكره في كل ذنب لم يتب عنه، تناثرت أمواله وشهاداته أمام عينَيه عرف الحقيقة ولكن بعد فوات الأوان، دمعت عيناه ثم أسلم نفسه للموت.
“قم يا زوجي العزيز لقد جهزت لك القهوة وأيقظتُ الأولاد وأمرتهم ألا يصدروا أي صوت حرصًا على راحتك”. انتفض جابر، فإذا بيده اليمنى تشد على اليسرى، نظر إلى زوجته وكأنه يراها أول مرة، وليلى صامتة مندهشة، تلمّس رأسه ونظر حوله، قام إلى الشرفة ينظر هل في الشارع جنود ثم ضم زوجته، “آه يا زوجتي سامحيني، أين الأولاد اشتقت لهم”.