“حينَ تُمسي الذَاكرة بحجمِ وطنٍ مكلوم”
قَاب قوسين أو أدنى..
أمشي دونَ هَدي إلى اللا وجهة ككفيفٍ ضل الخُطا كذلك اليوم الذي سحبني فيه حارسُ الزنزانة رقم خمسة للتَحقِيقِ كَما تُسحب الدواب وأنا معصوبة العينين والأمل ..
أرى وجوهًا عابرة كثيرة، أحاولُ قِرَاءة أسرارها خَلف كُل هالة وتجعيدة حتى النّدب الصغيرة ما هي إلا آثار لبقايا أمس حزين.. لِوَهلة راودني إحساس أن ما نحن به ما هو إلا شريط فيلم سينمائي وربما مسرحية لا أحد يعلم مسبقًا أحداث خَاتمتها؛ فالغيبيات صفة الإله وخاصته ولذا نخاف المجهول رغم يقيننا بالله..
نخافُ مِما هو آت ربما السبب كوننا نخشى فقدان ما نحب كالأماكن والأشخاص وربما الحَياة..
يرهقني كَثيرًا في كل مرة أخرج فيها أن أجلسَ كجلستي المُعتادة على كرسي في حَديقة وبجانبي قهوة مُحلاة بقليل من السكر علها تخفف مرارة اليأس في فَمي..
لقد بلغتُ العشرين، العشرين!
العمر يا صديقي معضلة كبيرة تحس أنك مَاكثٌ فِي مكانك والعمر يجري يشدك بقوة لتهرول معه ولكن أقدامك تمنعك من الجري، تحاول التشبثَ بحبال الماضي لكن تخونك يديك بسبب وطأة احتكاك الحبل بهما..
أكاد لا أنسى أول يومٍ على مائدة الإفطار في شهر رمضان لسنة ٢٠١٨ كنت حينها في الثامنة عشرة من عُمري.. فتاة في مقتبلِ العمر تَنزف أحلامًا ورؤى.. لكنها مكبلة بكل قيود العَجز واليأس عدا من كُوّة في جدار تتسرب منها أشعة الشمس لتهمس لنا أن لا باب يُغلق للأبد، ولا بد من أمل ولو بعدَ حِين.
قد يتبادر لذهنك حينَ قلت مائدة وليمة من أشهى الأطباق كعادتنا نحن السوريين في كل رمضان من “فتوش وحساء وطبخات” تكاد تسلك طريقها للقلب لا المعدة لأنها صُنِعت بيد الأمهات وجُبلت “كِبتها” بمحبتهن ولهفتهن لرؤية ابتسامة العائلة ساعة الإِفطار.. لكن المائدة حينها كانت مُختلفةً عما اعتدنا عليه؟
أرز مسلوق بماء وخبزٌ بارد كالغرفة رقم تسعة المثخنة بأوجاعنا وأحلامنا الحمقى..
كانت وجوه النساء لحظتها كقرية تزفُ شهداءها بعد مجزرة دامية.. ربما راحت ذاكرة كل واحدة منهن تسترجعُ أيامًا كُنَّ فيها مع عائلاتهنَّ ..
راحت تجتمع اللقمة في الحلق واحدة تلو الثانية فالغصة حالت بينها وبين وصولها لجوف المعدة..
هل هي الغصة أم مذاق الطعام المر كالعلقم وربما كأيامنا الرمادية حينها!
حاولتُ أن أتناسى أصوات الأنين والنحيب، وراحت ذاكرتي ترسم وجوه عائلتي وأصواتهم..
تخيلت أمامي بيتًا.. وطنًا ..حُلمًا، وَرَسمتُ أملًا .. دِفئَا، وعندَ الابتسامة الأخيرة أفقت على أصواتِ التعذيب التي شلت حلمي وقلمي ..استفقتُ على زنزانتي لأنام على قيد نجاة.
مما لا تمحوه ذاكرتي الخالة أم أحمد كانت امرأة طاعنة في السن من مدينة حلب ومضت على مكوثها خلف قضبان السجن ثلاثة أعوام، كانت بمثابة الوطن الذي يبعث الأمان في النفس لمجرد ذكر اسمها لأنها كانت أشبه بالأم الحانية واليد التي تربت على أَكتافِ المكلومة قلوبهم ..كانت في كل ليلة تروي لنا قصصًا وحكايات تنسينا لعذوبة طريقتها في القَصّ آلامنا وأحزاننا ..وعند نهاية كل قصة تعتريها نشوة الفرح لمقدرتها على نشر البهجة ثم تعود لزاويتها المعتادة وتمسك مسبحتها المصنوعة من نوى الزيتون لتسبح وتذكر الله.
حدثتني ذات مرة عن قصة الحب التي جمعتها مع زوجها أبي أحمد قبل ثلاثين عامًا، أخبرتني كيف كانت تقرأ الرسائل في كل يوم لأكثر من مرة حتى حفظتها عن ظهر قلب، وفي كل مرة كانت تعتريها المشاعر واللهفة ذاتها..
ولكن ذات ليلة سوداء استفقتُ على صوتها العالي حين أجهشت بالبكاء والنحيب؛ حاولنا التخفيف من وطأة الحزن الذي غير تضاريس وجهها وحوله لساحة شهدت معاركها مع الذكريات والدموع التي حفرت وجهها، ولكن كل محاولاتها باءت بالفشل لقد كانت هذه الليلة مختلفة عن باقي ليالي الحداد، وبعد وقت ليس بقصير استطاعت أن تلتقط أنفاسها؛ فتمتمت لنا بحرقة عن أضغاث أحلام وإذ بها ترى في حلمها أولادها الستة وهم مجتمِعون حولها يتبادلون أطراف الحديث ويشربون الشاي حول المائدة، يشتت شملهم دخول وحش كبير يهجم بمخالبه عليهم ويقطع ببراثنه أجسادهم واحدًا تلو الآخر، وهي تنظر من بعيد لتراهم يسقطون فردًا فردًا وإذ بها تستفيق لحظتها ..كانت العبرات تخنقها وتخنقنا معها . تبادرت للأذهان مأساة كل واحدة على حدة وجلسنا نستفيض بالذكرى ونعود للوراء حيث اللقاء واقتراب الخطا ..
وبعد انتهاء جلسة الذكريات راحت كل واحدة لزاويتها المعتادة لتعود للنوم من بعد هذه اللحظات العصيبة، وفي صباح اليوم التالي نهض الجميع على صوت الباب الحديدي الفاصل بين ممر الحياة والموت لنفتح أعيننا الناعسة على صوت الحارس الخشن الذي قام بزج مساجين جدد.
نهض الجميع إلا أم أحمد بقيت طريحة الفراش باردة الجسد وكأن الحزن اعتصر قلبها حتى ماتت بجلطة من الحنين الزائدة. حاولنا إيقاظها ولكن باءت محاولاتنا بالفشل.. ذهبت أم أحمد إلى مكان أفضل من هنا وبقي جسدها الشاحب الشاهد الوحيد على مأساتها ومأساتنا جميعًا. لم نتمالك أعصابنا وكان الصراخ والنحيب سيد الموقف فقد كنا كالعائلة التي يجمعها الجرح الواحد؛ عزاؤنا الوحيد أنها دنيا.
إفراج
وَقفتُ أمام الباب الحديدي البارد، الفاصلِ بينَ غرفة الحداد وممر الشمس…
وأنا ما بين وبين…
يصرخون في وجهي أن أحضِري أَغراضك…
لملمتُ شتاتي، وَجَمعْتُ بقايايَ المُتناثرة في أرجاء المَكان… ألقيتُ نظرة أخيرة على الحائطِ الذي حفرت عليه بأظافري عدد أيامِ مَوتي…حَدقتُ جيدًا في بقايا قطعة الخبز اليابسة وحبة البطاطا المسلوقة… والجمل المحفورة على الجدران…
والكّوة الصغيرة في السقف التي لا تسمح حتى للهواء بالمرور… نظرتُ للبقية بنظرة ممزوجة بالفرح اليتيم والحزن…
كأَنِّي أَوَدُ أن آخذ معي كل من شاركونِي الجُرْح؛ فليس عدلًا أن نَحزَنَ سوية وأَفْرح بمفردي… حَاولتُ أَن أَمضي تاركة ورائي ذكرياتي السوداء، لكِنها نُدبة في القلب سَرمدية الأثر…
قطع سلسلة تخيّلاتي صوت الحارس: “جيبي غراضك بقا ولا حابة تضلي باستضافتنا”… “هه إذا بدك تضلي ترى ما عنا مشكلة”…
مشيتُ هرولة نحو الباب… دقات قلبك تسبقني… خرجت…
لَامسَ وجهي شُعاع الشمس…
وهنا فقط صمتُّ كُليًا عدا من صَوتِ صراخ قادم من الداخل…
يا الله حرية.