الهجارسُ السَّبعة

شرح المفردات:
الهجارس: جمع هجرس وهو ابن الثعلب.
تعارَّ: استيقظ من نومه، تقلّقَ.


في ذات ليلة من ليالي الصيف، تعارَّ خالد من الليل دون سبب، وانهال عليه حميم الأرق، وتفشى بداخله حُب الخروج.
كان الناس نياماً، وكان الوقت منتصفَ الليل، فقام إلى بندقيته، وأسندها إلى ظهره، وأمسك بكفه المصباح، وفتح باب منزله، فسمى الله ثم خرج.
سار في دربِه المعتادِ، دربِ المدينة المهجورة، لكنّ هذه المرة من دون اصطحاب صديقيه أحمد وزياد…
كانت النجوم تتلألأ في السماء كأنها شموع الكنائس، وكان الهلال كشيخ وقور قد أنهكه التعب؛ فاتكأ على غيمة كانت تحته كوسادة بيضاء تطايرَ منها ريشُ النعام وتناثر…
في ذلك اليوم: لا تسمع سوى عزف صرصور أطربه النسيم؛ فأخذ يشدو بملء فيه، وصوته يملأ الفضاء: صو صو … فتتراقص على عزفه أوراق شجر الزيتون.

أخذ خالد طريقه يراقب تلك الصورة البديعية من خلق الله، وصدره في انشراح لانشراح، وبندقيته تلفه لف الحبيب للحبيب.
وعندما وصل بطن الوادي؛ قطع عليه هدوءه عواء ثعلب بأعلى صوته كأنه طفل صغير: واع واع واع …
أدار خالد سمعه نحو ذلك الصوت، وبدأ يتتبعه شيئاً فشيئاً…
كان صوته في تقطّع مستمرّ؛ يهيج تارة ويخبو أخرى…
جد خالد السير، وأخذ بالقفز من صخرةٍ إلى أخرى، إلى أن وصل إلى جرف صخرة بأعلى الوادي، وفيه وكرٌ صغير!
اختفى ها هنا صوت الثعلب تماماً، وكأنه عدم أنفاسه..
أدار خالد المصباح في ذلك الوكر؛ فشاهد ما لم يشاهده في حياته كلها، شاهد ثعلبة وبقربها سبعة هجارس صغار، كانوا قد اختبؤوا خلفها، وكانت أعينهم تضيء كما المصباح المنبعث من سيارة صغيرة…
في هذه اللحظات: وقف خالد حائراً من أمره؛ أيصوب بندقيته نحوها، أم يرجع أدراجه ويترك هذه العائلة سعيدة وشأنها؟
فكر قليلاً، ثم أدار ظهره. يبدو أن قلبه الرؤوف لم يسمح له بالبطش بها؛ فقد فكر بطفولتهم ووداعتهم، فكر في براءتهم وألفتهم…. ولم يخطر بباله للحظة مكر أمهم.
بعد هذا المشهد عاد خالد إلى بيته؛ ولم يتابع طريقه نحو المدينة المهجورة، وهو مسرور بما رأى، ودخل بيته وعلق البندقية على الجدار، ورمى المصباح جانباً، ثم غط في نوم عميق.

في صباح اليوم الثاني: تأخر خالد عن صلاة الفجر إلى قبيل طلوع الشمس، على غير عادته. نهض سريعاً، وتوضأ على عجل، فصلى… وهو يشعر أن يومه ناقص بشيء عن بقية الأيام!
ثمّ نزل إلى قن الدّجاج على عجل؛ ليفتح بابه لهم؛ ليبدؤوا يومهم الجميل مع تغريد البلابل.
لكنّه حين وصل إلى القن، شاهد ريَش الديك الحمراء تتطاير أمام القن، فتح الباب؛ فخرجت الدجاجات دون الديك؛ فصفع ناصيته، وشهق بقوة وقال: أم عويل!!!
وقف هاهنا قليلاً مع نفسه بعد أن عرف الشيء الذي يفتقده في هذا اليوم، ألا وهو صياح ديكه الذي اعتاد عليه مع بدء كل يوم جديد، ثم صعد إلى بيته؛ ليتناول الفطور، ويمضي إلى عمله متناسياً أمر الديك.

مرت الأيام يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر؛ وكبرت الهجارس، وأصبحت ثعالباً؛ وكثرت مصائب أهل القرية بسببهم؛ فكل يوم يستيقظ خالد على فقد دجاجة، وهذا فُجِع بصيصانه، وهذا فُتك بحمامه؛ فصمم خالد أن يمضي ليلاً إلى وكر الثعالب؛ وينهي أمرهم؛ كونه يعلم مكانهم…
جاء الليل، وخرج خالد ممتشقاً بندقيته ومصباحه نحو الوادي، إلى وكر تلك الهجارس، وعندما وصل إلى الوكر؛ أدار المصباح فيه، فإذا به مهجور منذ زمن، ولا شيء فيه سوى وبر قديم وريش متناثر.
 وتذكر حينها الهجارس الصغار، والصورة التي كان قد رآهم فيها، وتذكّر وداعتهم وحماقته حين رقّ قلبه لهم وقال لنفسه هأنذا أحصد نتيجة عطفي على عدو لي، ثم وقف في أعلى الوكر وأنشد قائلاً:

لا تَعْطِفَنَّ علــى صَغِيرِ عِداكَ 
      تَلْقَ المُـــــــلامَ إذا فَعَلْتَ لِذاكَ
إنَّ    العَــدُوَّ   مُلَقِّنٌ    أبناءَهُ
لَبَنَ العِـــــدا ، لا تَتْرُكَنَّ هُداكَ
وإذا لَقِيْتَ مِنَ الثَّعالبِ هِجْرِساَ
إيّــــــاكَ  أنْ  تَحْنو لهُ  إيّـــاكَ
شَرِّد بِهِ وابطِشْ بِـهِ فهوَ الذي
لو يَنْطِقُ الفصحى لَسَـبَّ أباكَ

الكاتب: عبد الرحمن منير عمر

Loading

تقيم هذه القصة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top