أصدقاءٌ في زمنِ الحرب

في قلب الظلام الذي يكتنف بلادي تعيش العديد من القصص التي تفضح ممارسات النظام السوري من قتلٍ وتهجيرٍ وتدمير لحياة الأبرياء .
منذ بداية الثورة كانت سورية ساحةَ جرائم حربِ لم يسبق لها مثيل؛ حيث تحولت المدن والقرى إلى أنقاض، والأرواح إلى أرقام في تقارير منظمات حقوق الإنسان.
تتنقل هذه القصص بين أزقة دمشق وحلب وبين مدن حمص وإدلب لتروي لنا لحظات رعب وفقدان وأمل رغم القسوة.
هي ليست مجرد حكايات بل شهادات إنسانية تؤرخ للمعاناة وتحكي عن شعبٍ صامدٍ في وجه آلة القتل… في كل قصة هناك شخص دفع حياته ثمنًا لحلم الحرية، وهناك آخرُ لم ينسَ رغم الألم أن يقاوم الظلم الذي استمر لسنوات.
هذه القصص ليست مجرد أرقام في التقارير بل هي حياةٌ إنسانيّةٌ تسلط الضوء على حقيقة جرائم النظام السوري.

بين جدران الصمت
“إن وصلتْ إليكم رسالتي فأنا بخير حتى وإن متّ”
هذه الرسالة خرجت من قلب سجون النظام إليكم أيها الأحرار،
بينما كنت خارجاً برفقة أصدقائي محمود ويوسف من كلية الآداب في دمشق وكعادتنا في كل يوم شتوي نأكلُ الفول النابت من إحدى العربات التي تحيط بالكلية، وبينما نحن كذلك إذ توقفت سيارة لا تُظهر مَن بداخلها.
ونزل منها عناصر يلبسون الأسود وعلى أكتافهم شارة: إدارة المخابرات العامة..
وهنا تملكني الخوف من المنشورات التي في جيبي.
الضابط: هوياتكم؟
تفضل
الضابط: ما اسمك؟

أما عادل فبعد الذي حلّ برفاقه أخذ قراراً بأنه سيقاتل، إن السجون لم تقتل حلمه في الحرية، بل زادته قوةً. التحق بصفوف الجيش الحر، حيث كان الصوت الذي يطلقه الرصاص في المعركة هو الرد على ظلم النظام.
لكن الأقدار كانت تخبئ له مفاجأةً، ففي إحدى المعارك العنيفة، أُصيب عادل برصاصة، جُرَّ على الأرض فاقداً وعيه، فتحَ عينيه ليرى دمه يسيل وهو يُجرُّ بلا رحمة… وعند وصوله للمستشفى ضُرب ضرباً مُبرحاً من قبل ضبّاطٍ زُرع الإجرام في نفوسهم، مما زاد حالته سوءًا، فقدَ وعيه طوال فترة مكوثه في المستشفى، فتحَ عينَيه ليرى شعاعًا خافتًا يهتز، يلتفتُ إلى جانبه، نفس الجدران التي كانت تحتجزه من قبل، لكن هذه المرة كان قلبه أقوى، وعقله أكثر قدرة على المواجهة.
تلك الجدران التي كانت تحيط به في السابق أصبحت أكثر دلالة على المقاومة… “نعم، سأعود إلى هنا، ولكنني سأقاتل حتى النهاية” همس لنفسه وهو يقف في ذات المكان الذي شهد آلامه سابقًا…
رغم كل ما مرّ به الأصدقاء الثلاثة، بقيت تلك الذكريات التي ربطتهم معًا؛ الذكريات التي تشهد على أيام من الصمود، والآلام، والآمال التي لا تموت، محمود فقد عقله في رحلة العذاب، يوسف غادر الحياة بعد أن تحمل ما لا يمكن تحمله، وعادل عاد إلى السجن، لكن قلبه كان مليئًا بالأمل.
ما تبقى من حياتهم ليس مجرد رحلة فردية، بل هو جزء من تاريخٍ أوسع، تاريخُ ثوارٍ لا يمكن أن يُكسروا، حتى وإن بدت جدران السجون مثل القلاع المنيعة.
كلُّ واحد منهم ترك بصمته في التاريخ، ليبقى السؤال: هل سيحققون الحرية التي حلموا بها؟… نعم لقد حقّقوا…

“هويتي معك شوف الاسم”
الضابط: “عم تتذاكى عليي يا… ، اشحطوه”.
كنا أنا ويوسف ومحمود لا أحد يستطيعُ تمييزَ وجوهنا عن بعضها بسبب كثرة الدماء، وهكذا كانت البداية التي لم تنتهِ بعد.
بعدَ أن استفقت من غيبوبتي وجدتُ نفسي ممددًا على الأرض؛ والدماء من حولي، وهناك الكثير من المعتقلين الموجودين في زنزانةٍ واحدة ضيقة، واستشعرت بيد يوسف تمسح من على وجهيَ الدماء.

أين محمود؟

أخذوه على التحقيق…
و ما لبثتُ قليلاً حتى أتى دوري في التحقيق ،كنت أسمع فقط عن أسلوبِ شَبْح المعتقلين؛ ولكن هذه المرة تعرفت عليه شخصيًّا.
أدخلوني إلى غرفة التحقيق وبدون أي سؤال، وبلمحة نظر كان هناك عنصرين يحملاني، وثالث يشدُّ وثاقَ يدي برباط بلاستيكي، وعلقوني من يديّ على أنبوب حديدي؛ وبالكاد رؤوس أصابعي تلامس الأرض، كان الألم لا يُحتمل، فكلُّ جسدك معلق على معصَميك، وتبدأ رحلة الصراخ التي لا تنتهي، وبِنفس الوقت كنت أسمعُ صوت صراخ يوسف يمتزجُ مع صراخي، وأنا لا أعلم هل هو مشبوح مثلي أم ماذا!
ما نوعُ العذاب الذي يتعرض له؟
أُصبتُ بالذعر عندما سمعتُ صرخة محمود الهستيرية.
آلمني قلبي كثيراً، أيُّ نوع من العذاب يتلقى حتى يصرخ بهذا الشكل!؟
هل مارسوا عليه قلع الأظافر، أم الدولاب أم وضعوه بغرفة مليئة بالجرذان شبه المفترسة؟
وبلحظة من اللحظات وجدتُ نفسي أستفيق في زنزانة؛ وكل أعضاء جسمي تؤلمني؛ ولا أعلم كيف أو متى انتهى التحقيق معي…
وقد كان في هذه الزنزانة أشخاصٌ كُثر، والحمد لله أنني اجتمعت مع يوسف ومحمود… وبدأنا نعدّ الأيام والأشهر ونحفر ذكرياتنا على جدران زنزانتنا وكأنها أصبحت عالمنا الخارجي الذي نحلم به…
كان محمود قد بدأتْ تظهر عليه علامات النسيان والهذيان بشكل كبير…
ويوسف بدأت تظهر على يديه علاماتٌ وندوب، وقد استمرت طويلاً بعد آخر مرة تعرض فيها للتحقيق.
وبعد أن بقينا في المعتقل لمدة سنتين، دخل أحد الضبّاط علينا وصرخ بأسماء ستةِ أشخاصٍ كنت أنا ومحمود ويوسف من ضمنهم.
خرجنا وكأنّ عمراً جديداً قد كُتِبَ لنا…
كانت السماء شديدةَ الصفاء حين تم الإفراج، الهواء الذي لمس وجه محمود بعد سنوات من الظلام في الزنزانة كان خفيفًا كنسيمٍ عابر، وبينما كان يخرج من الباب الحديدي لسجن “كفر سوسة”.. كان صديقه يوسف يقف في انتظاره، قلبه يضطرب بين مشاعر الفرح والأسى، كان محمود الشخص الذي لم يكن بإمكانه أن يُنسى حتى في أقسى اللحظات، لكن الآن، بدا غريبًا، فبعد أن علم من جيرانِه أن أهله قد هاجروا إلى الشمال اضطربتْ حالته وساءت أكثر فأخذوه للمستشفى، تجمّع حوله الأطباء، وأصدقاء آخرون كانوا قد خرجوا من السجن قبله، لكن محمود كان يبتسم بحماقة، عيناه ضائعتان في الأفق كما لو أنه لا يستطيع فهم ما يحدث حوله… أأنت بخير؟ سأل يوسف، لكن محمود كان يضحك بصوتٍ غير متوازن ويردد كلمات غير مفهومة.

مرت أيام على الإفراج، لكن محمود لم يعد كما كان، كان جسده موجودًا، لكن عقله قد ضاع بين جدران السجون. وكان يوسف يراقب صديقه وهو يحاول العودة إلى الحياة، لكنه أدرك في أعماقه أنه فقد محمود إلى الأبد، “لقد سرقوا منا كل شيءٍ، حتى العقول”، همس يوسف لنفسه وهو يبتعد عن محمود، الذي أصبح ظلًا لصديقه القديم.
وبعد أسابيع من الإفراج عنهم، لم يكن “يوسف” قد تعافى من جراحه جسديًّا ونفسيًّا، ومما زاد من حالته سوءًا أنّه رأى أهله متصالحين مع النظام السوري مؤيدين لرأيه، خبرٌ نزل عليه كالصاعقة، أخوه الذي عاش وترعرع في كنف الأب الذي أنشأهم على الكرامة والإباء أصبح ضابطًا في قسم المخابرات العامة الذي تعذّب ومات على يديه كثيرون، بعد كل تلك الصدمات المتتالية شعر بشيءٍ غير طبيعي في قلبه…

“يوسف، هل أنت بخير؟” سأل أحد أصدقائه، لكن يوسف كان يبتسم ابتسامةً مريرة، ملامحُ وجهه قد شحبت وتورمت، وبينما كان يتحدثُ عن أخيه وكيف قتل ورمّل ويتّم أطفالًا أبرياء، بدأت ملامحه تتغير، وعيونه تغشى، ثم سقط أرضًا، الدماء بدأت تتناثرُ من فمه، وقلبه توقف عن الخفقان بعد دقائق، لقد أصابته جلطة دماغية أودت بحياته..
لكن الموت لم يكن فاجعةً جديدة، بل كان نتيجة طبيعية للألم الذي عاشه، وللأهوال التي مرّ بها…

Loading

تقيم هذه القصة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top