استيقظتْ بأنفاسٍ لاهثة، استعاذتْ بالله وخرجتْ لترتشفَ كاساً من الماء يبرِّدُ النيران المشّتعلة في صدرِها، ولجتْ إلى المطبخ ليلحقَ بها ابنها عُمر، رمقها بنظراتِه مستفسراً
_ أهو الحلمُ ذاته؟
سقطتْ دمعةً هاربةً من عينيها المذعورتين، فَفَهِم عمر ذلك …
منذ ذلك اليوم وأمُّه تهبُّ مذعورةً في مثلِ هذا الوقت، لا يعلمُ ما الذي يمكنهُ فعلُه ليساعدَها.
كان كل الذي باستطاعتهِ توجيهِ نظراتِ الحقد والضغينة على هؤلاءِ الأوباشْ .
جلستْ أمّ عمر على الطاولة وسرحتْ بنظراتها لتصلَ إلى ذلك اليومِ المشؤوم …
كانتْ قد حضَّرت الفطور وأيقظتْ زوجَها ، جلسا على مائدةِ الطعام في جو مليءٍ من المودةِ والرحمة ، يتجاذبان الأحاديث حول طفلهما الأول القادم على الطّريق ، فجأةً
سمعا طرقاتٍ عنيفة على الأبواب كأنّ زلزالاً ضرب المدينة، لم يشعروا بأنفسهم إلا والأمن العسكري فوقهم ، سارعَ أبو عمر ليضعَ جعبتهُ على رأس زوجته التي أصابتها هستيرية وهلع شديد، “خايف عشعرات مرتك مو هيك والله لأمسح بشرفك الأراضي” .
وانهالوا عليهم بالضربات، فعلوا بهم الأفاعيل ، مزّقوا ثيابهم حتى أصبحوا عُراة، دماؤهم تناثرتْ في الأراضي كأنّها أنهار
أحدهم تقدمَ ليغتصبَ أم عمر لكنّ لطفَ الله ثمّ ذكاءَ زوجِها أنجاها؛ إذْ هرَبَ أبو عمر باتجاه الباب ليلحق الجميعَ به ويمسكوه ويذهبون بهِ إلى حيث لم تُعد أم عمر تراه …
مرّت ليلتها تلك ثقيلةً، شعرتْ كأنّ الدنيا جاثمةٌ على صدرٍها ، جلستْ طوال الليل لم يغمضْ لها جَفن تستذِكر كلماته الأخيرة “انتبهي لنفسكِ وانتبهي لعمر فإنّي أرى بهِ قرارةَ العين” ، كانت تتلمسُ بطنها وتبكي بكاءَ الفاقِدِ لولدِه
وما إنْ بدأتِ الشّمسُ بالشروق حتى ارتدتْ ثيابَها وخرجتْ هائمةٌ على وجهِها ، لا تعلمْ أين تذهب، كانتْ كل ما تعرفهُ أنّها وحيدة وأن هذهِ الدنيا قاسية للحدِّ الذي لمْ تبقِ لها أحد .. ذهبتْ إلى مكتبته نظرتْ إليها بكلّ حُرقة، رأتهُ في كلِّ الوجوه المارّة كأنّما لا أحد سواه في هذا الكون لتعود إلى المنزل تجرُّ أذيال الخيبة.
كانت تعلم أنّه لن يعودَ، وأيُّ شخصٍ يقعُ بأيدي هؤلاء الظلامِ لن يعود.
ما إنْ فتحتْ الباب حتى أجهشتْ بالبكاء، كيف انهارتْ أحلامها دفعةً واحدة! كيف لها أن تُصبحَ مصدرَ ألمِ بعد أن كانتْ حياة!
آهِ كم أنّ هذهِ البلاد مخمدة للأحلام!
عشرونَ عاماً بأيامها ولياليها لم يستطع الزمن أنْ ينسيها ذلك اليوم
كذبوا وقالوا أنّ الوقتَ يُمحو الذاكرة فالألم لا يُمحى ….
أعادَها للواقع صوتُ شيخِ الحيّ التي تقطنُ به
أشْكو إليكَ أموراً أنتَ تعلمُها
ماليْ على حملِها صَبرٌ ولا جَلدُ
لقدْ كانتْ فكرة أنّ اللهَ موجود الفكرة الآمنة في رأسِها المضطربْ.. كان عمر جالساً على مائدةِ الطّعام تقابلهُ أمّه، فجأة وجّه لأمّه سؤالاً: أُمي من همُ الشّهداء؟
ظهرتْ ابتسامة على وجهها لطالما كانتْ تُسعدها أسئلة عمر المباغِتة.
الشهداء يا بنيّ هم الذين يفدونَ الأرضَ بدمائِهم، يذودونَ عن أهلهم وعرضِهم، الشهداء كرامةُ الوطن؛ ولا وطن بلا كرامة إذ لا وطن بلا شهداء، الشهادة مقدّسة والشهيد مقدّس يكفي أنّ الله ورسولَه شهِدوا له بالجنّة ..
هو يعرفُ ذلك؛ قرأَ على الإنترنت عن شهداءِ إدلب في المجازر التي يرتكبُها النّظام المجرم، لكنّه يحبُّ الحديثَ مع والدتهِ في هذا الشأن، يشعر أنّها تمدّه بالقوة تُجاه المجهول …
لا أسكتَ الله لك حسّاً يا بنيّ، ما خطبك؟
قرأتُ عن مجازر جديدة حدثتْ في المناطق المحرّرة وإنّي أستغربُ كيفَ لم يهُبّ أحداً من فصائِلهم للردّ على هذه المجازر؟
لا تقل ذلك يا بني لكلٍّ منا طاقةً محدودة وإنّي أرى أنّهم يُعِدون أنفسهم برويةٍ ليكونَ نصرهم عظيماً كعظمةِ أهلِ الشّام …
يا رب، قالها زافراً من صدره هواءً كأنّها نيران ..
في الآونة الأخيرة سمعَ أخباراً مبشرة من الشمال المحرر، الثوار بدؤوا بالتحرك وقد وصلوا إلى ريف حلب الغربي ، لا ينبغي أنْ يبقى جالساً، يجب أن يفعل شيء ما ليساعدَ المجاهدين، خَطَرَ له هاجس السفر إلى تركيا ومن هناك يذهب لينضمَ إلى فصائِلِ الثّوار لكنّ أمّهُ كانتْ تُقيد تفكيره ،
رسمَ العديدَ من الخطط في رأسِهِ ثمّ نهضَ من فراشهِ واتّجه إلى مكتبته، كتبَ على قصاصة مربعة عبارات، وبدأ يطبعها، بقي طوال الليل يحضّر هذهِ الأوراق، طبعَ منها ما يقارب ألفَ ورقة ، بقيتْ الخطوة الأهم كيفَ ينشُرها بينَ المدنيين؟
خطر بباله صديقه أيمن، اتصل به ودعاه إلى العشاء،
في المساء وبعد أن تناولا الطعام
ها عمر قل لي ما وراءك؟
التفتَ عمر بحركة عفوية
ورائي حائط، وضَحِك
ابتسم أيمن بدوره لخفّة دمّ صديقهِ التي لا وقتَ لها،
اخرج عمر قصاصةً ورقية أدلفها بيد أيمن وعادَ لجدّيته
بدأ أيمن بقراءة الورقة وحدقاته تزدادُ اتساعاً: بسّم الله الرّحمن الرّحيم
أما بعد …
من المجاهدين في الشمال المحرر إلى إخوتنا المدنيين في حلب نعلِمُكُم أننا بعون الله خلالَ أيامٍ قليلة تكون حلب محررة بالكامل وبإذن الله سنوات القمع والظلم إلى زوال وإننا لنعلمُ أنّ منكم مَن يتعطشُ إلى هذا اليوم لكنّ حُكم الظّلام منعكم من الوقوفِ الى جانبِ الحقّ فكونوا معنا بقلوبكم ودعائكم ومَن أراد منكم أن ينضمّ إلينا فليراسلنا على الرقم التالي …
نظر أيمن إلى صديقه نظرات ملؤها الاستغراب
لا تقل شيئاً، لقد عقدتُ العزم على توزيع هذه القصاصات بين المدنيين ، ربما كان فعلاً جنونياً لكني لا أستطيعُ أن أقفَ مكتوفَ الأيدي بينما الثّوار بالخارج يواجهون الموت لأجلنا
أي أجلِنا يا رجل مجنونٌ أنت؟!
هؤلاء أوباش هدفهم الحكم فقط
إياكَ أن تعود إلى هذا الحديث الفارغ، إن شئت أن تساعدني فلكَ ذلك وإن أبيتَ فتنصرف باحترامك ولا تتفوه بكلمة واحدة عمّا تجهلُهُ.
بقيَ يومان لا يفعل شيءْ سوى التفكير حتى جاءته البُشرى :
عاجل : فصائل المعارضة على بعد عشرة كيلو متر من حلب .
نهض من فوره إلى مكتبته، كانت الساعة تجاوزت العاشرة ليلاً، لبس ثياباً سوداء وتلثّم بلثامٍ أسود ثمّ حمَلَ حقيبتَهُ الحاوية على القصاصات وخرج ، تسلّق منزلاً عربياً ورمى خمس قصاصات عليه، وهكذا يتنقل على أساطيح البيوت تارةً وينزلُ إلى الأسفل تارةً ، بقي على هذه الحال حتى قبيلَ رفعِ أذان الفجر بقليل ، عاد إلى البيت والفرح يكسو وجهه ، بقي على هذه الحال خمسة أيام حتى بدأ يسمعُ بعضَ التمتمات عن المناشير التي تنزل على البيوت.
في أحد الصباحات خرج إلى عمله لكنه رأى مشهداً على إثره تساقطت دموع الفرح من عينيه، مكتوب على إحدى الجُدُر ( النصر لثوار ردع العدوان ) التقط صورة سريعة ومشى ..
ما إنْ وصلَ إلى مكتبته حتى رنّ هاتفهُ، على الطرفِ الآخر جاءهُ الخبر الصاعق الذي شلّ حركته
عمر اعتقلتْ والدتك وهم باتجاههم إليك ..
أسقط مفاتيحه من يده وركب درّاجته وانطلق بها ، دموعه تسابقهُ بدأتْ السماء تمطر كأنّها أحسّت بألمه وقهره
هل تبكي السماء بدلاً عنا ؟
وصل إلى بناءٍ مهجور جلسَ فيه يومين، بكى فيهما حتى احمرّت عيناه.
كان يبكي آلامه وآلام الأمة الإسلامية كلها، يبكي أمه وأبوه ووطنه … وطنه الذي تساقطت منه طفولته وأحلامه.
ذهب إلى محل صغير للأجهزة خلف البناء الذي يجلس به
اشترى هاتفاً ووضع به الرقم الذي كان يضعه على القصاصات، ذُهِل!!! أكثر من مائة رقم تواصلوا معه يطلبوا الانضمام إلى الثوار.
تواصل مع بعض الأرقام التي ارتاح لها، أما الأرقام التي شعر بتوجّس منها حذَفَها دون أي تردد ..
تعب كثيراً في الآونة الأخيرة، شعر بألم في رأسه وعينيه وقلبه..
قلبه المتعب من بلاده وأهله وأحلامه وصديقه الخائن، عمد إلى إشغال نفسه لكي لا يتذكر أيمن ، كيف استطاع أن يخذله بهذه الطريقة ؟!
كيف يتحول الأصدقاء إلى أعداء بين ليلةٍ وضحاها !.
اتفق مع الأبطال الذين راسلوه على رقم القصاصة بأنهم لن يفعلوا شيئاً الآن، سينتظرون أبطال ردع العدوان ليصلوا حلب ومن ثم يسلّمون أنفسهم لهم وينضمون معهم، فقد أصبحَ الثوار قريبين من حلب جدا…
وصل الثوار إلى حلب…
يا الله يا الله حلب محررة بالكامل من أيدي النظام المجرم
يا لله من كان يتخيل حلب أم الحضارات تصبح بيد الثوار بغضون أيامٍ فقط، الدنيا في فرح، العالم كله في فرح …
حلب لبست الثوب الأخضر وانضمت إلى المناطق المحررة.
يا رب نحتاج لغة إضافية تُترجم أفراحنا …
ما إن وصل أبطال ردع العدوان حتى استقبلهم عمر ورفاقه بالورود والتكبيرات، والآن تحقق حلمك يا عمر
عمر في صفِ المجاهدين الأحرار، كان يقاتل بكل شراسة،
وليلاً يفكر بأمّه وردة فِعلها عندما تعلم أن عمر ابنها وحبيبها أصبح ثوريًا قولاً وفعلاً! ونهاراً يقاتل النظام النصيري ..
لقد وصلهم خبر أن النظام يجنّد المعتقلين وطلاب الجامعات ليحاربوا معه بعد أنِ اضطربتْ صفوفهم وخذلهم الجيش الروسي.
أُصيبت قدم عمر اليسرى في أحد معارك تحرير حماة
فتخلّف عن الالتحاق بالثوار وبقي حارساً مع بعض المجاهدين على الأسرى ، كان أحد رفاقه يسأل الأسرى عن أسمائهم حتى وصل الى أحدهم :
شو اسمك؟
حمزة الجابري
توقفتِ الدنيا من حوله، أنفاسه تضرب بعنف على قفصه الصدري ، عيناه غارت في وجهه ، والاسم يتردد في رأسه:
حمزة الجابري!
قبل أن يلتفت كانت ثلاث رصاصات قد اخترقت صدره، خرجت من سلاح حمزة الجابري فأصابتْ قلبه قبل أن تصيبَ جسده وسالتْ دموعه قبلَ أن تسيلَ دماؤه، “خلينا نهرب بسرعة قبل ما يجوا”
قالها أحد الأسرى إلى الباقين بعد أن استطاعوا مغافلة المجاهدين وقتلهم .
قبل أن يخرج شيئاً ما جعله يلتفتْ ناحية عمر ، لقد كان شاباً خلوقاً عاملهم بطيبِ نفس وسعة صدر .
ألا بؤساً للحرب التي تُريق دم أمثالك!
كانتْ آخر الكلمات التي ترددت على لسان عمر: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، اللهم إني أسالك أن تقبلني من الشهداء وتجعلني شفيعا لأبي ..
أبي الذي قتلني.
وطافت روحه إلى باريها
بعد شهر ..
تحققت أحلام عمر اليتيمة جميعها ..
تحررت سوريا بالكامل من نظام أسد ومن عصابات قسد ومن روسيا وإيران، وخرج المعتقلون والمعتقلات من السجون، وعمّ السلام بسوريا الحبيبة، والتقت أم عمر بزوجها حمزة، وأمضيا بقية عمرهما ينتظران عمر الغائب أن يعود لحضنيهم…