في إحدى ليالي كانون الثاني الباردة وعلى ضوءٍ خافت كنتُ جالسةً بغرفتي أُتابع دروسي ،فتحت أمي الباب وفي يدها فنجان من القهوة ، وجلست بجانبي وقالت لي : يا ابنتي اشربي هذه القهوة ستساعدك على السهر لكي تحفظي دروسك فأنا أريد أن أراك طبيبة بإذن الله ،هذه أمنيتي .
اسمي آمال ، ولدت لعائلة فقيرة ، أب موظف في البلدية وأم ربة منزل وأخي حسام وأختي ملك ، كانت حياتنا مليئة بالسعادة والحنان رغم مرارة الفقر والحرمان الذي كنّا نعيشه.
كنت أكبر إخواني سنّاً لذا توجّب عليّ تحمّل مسؤوليّة أكبر منهم ، دخلت المدرسة وكنت ذات شغفٍ بالعلم ، حتى اجتزت المرحلة الإعدادية وأنا أُحصل أعلى الدرجات .
ازداد شغفي وحبي للعلم فدخلت إلى مرحلة الدراسة الثانوية ، وعندما اجتزت امتحانات الصف الاول الثانوي بالتفوق ، تغيّر كل شيء! أصبح للقدر كلام آخر ، تغيرت حياة السعادة إلى حياة بؤسٍ وشقاء ، في تلك الأثناء توجّب عليَّ أن أكون أصغر ربّة منزل تعتني بأبيها وإخوتها الصغار ،ترعاهم ،تحافظ عليهم .
تمكن المرض من أمي وأصبحت طريحة الفراش ، كانت صدمة كبيرة عند وصولها لمرحلة لم تعد تنفع معها الجرعات الكيماوية ، توجب علينا انتظار اللحظة الأصعب حسب قول الأطباء !
كنت جالسةً بجانب أمي وهي على فراش الموت ، فقالت لي بصوتٍ يتحشرج :ياآمال اعتني بأخوتك جيداً ولاتهملي دروسك فأمنيتي أن تكوني طبيبة ، وقالت لأبي : يا أحمد البيت والأولاد أمانة بعنقك احفظ الأمانة مهما كان الثمن ، كان العرق ينزل من جبينها كأنه عين ماء ، وأصوات الآلام تنبعث منها كصوت الرحّى ، فشهقت شهقةً فارقت الحياة على إثرها … منظرٌ رهيب ، أصوات بكائنا ملأت المنزل ، خطبٌ جلل ، ذهبت التي كنت أتوكأ عليها ، ذهبت من كانت ترسم السعادة على وجهي ، ذهبت من كانت تمدني بالطاقة الإيجابية .
كانت نقلة صعبة في حياتي ، تحوّلت من بنتٍ مدللة إلى أصغر ربّة منزل مسؤلة عن عائلةٍ بأكملها ، مسؤوليّة كبيرة لاتقوى عليها الجبال ، في بداية الأمر أردت ترك المدرسة لكن حلم أمي وأبي أوقفني وقرّرت المضيّ بالدراسة وبفضل الله استطعت التوفيق بين خدمة المنزل والمدرسة .
زميلاتي في المدرسة كنّ يتنافسن على الدرجة الأولى ، أما أنا وبسبب ضغوط الحياة لم أكن أفكر إلّا بالنجاح فقط.
بعد أن ينتهي دوام المدرسة أذهب إلى البيت وأنهي أعمال المنزل ، وأعد طعام الغداء لإخوتي وأبي الذي يعود إلى البيت متعبا ،فأسأله ما بك ياأبي فيجاوبني بحرقة :ياابنتي وفاةُ أمك المبكّرة زادت من تعبي ، فأنتم صغار وأخاف عليكم غدر الزمان ، وأنت صارت مسؤوليّة رعاية المنزل تقع على عاتقك ، ولكي أبعد الحزن عنه أقول له :لا تهتم ياأبتي فأنا أرعى أخوتي جيداً ، وبصوتٍ تتبعه نبرة البكاء ، ودروسك كيف ستهتمين بها ،فأجاوبه بكل تصميم ،ابنتك لاتهاب الصّعاب .
وفي المساء وبعد أن ينام الجميع أدخل إلى غرفتي لأكمل دراستي على ضوءٍ خافت لكي لا أُقلق سكونهم ،كان البرد قارصاّ ،كنت أضع على جسدي النّحيل غطاءً خفيفاً لايقي من برد ولايحمي من مرض ، لكنّ الدّفء المنبعث من حنان أبي ودعوات أمي كان ينسيني كل ذلك البرد .
وصلت إلى الصف الثالث الثانوي ،زاد الامر سوءاً عندما اقتربت الامتحانات ماجعلني أحتاج الى أوقات أكثر للدراسة ،فبهذا الامتحان يتقرّر مصيري ، بل مصير عائلتي ،كنت قد عاهدت والداي أن أُحصّل درجة الطب .كان الأمل ينبعث فيَّ كلّما تذكرت كلمات أمي (ستنجحين ياآمال وستتفوقين ) ،بفضل الله تم اجتياز الامتحان ،نحن جميعاً بانتظار صدور النتائج ،لم أتمالك نفسي عندما رأيت النتيجة على شاشة الهاتف ( آمال أحمد رحّال ) تحصل على درجة الدخول لكليّة الطب , عانقتُ أبي وأخوتي ،كان ذلك أشبه بالحلم لقد تمنيت أن تكون أمي معنا لكي تطلق (الزغاريد)فرحاً بنجاحي ، ولكنّني متأكدة أنها راضية عني ،ياالله ! يالحلاوة الجبر بعد مرارة الصبر .
فببداية دراستي بكلية الطب تطلّب الأمر من أبي العمل بشكلٍ أطول ،بدأ يعمل سائقاً لسيارة أجرة بعد نهاية دوامه ،وهذا من أجل أن يغطّي مصروف جامعتي و مصروف المنزل .
كانت الحياة صعبةً بعض الشييء آنذاك ، بالتصميم على النجاح ومن خلال المثابرة والتقدًم تمكّنت من اجتياز السنوات الخمس الأولى ،وفي السنة السادسة حدث الخطب ، تعرّض أبي لحادث سير أليم ، على أثره أصيب بشلل في أطرافه السفلية ،تقاعد من وظيفته ، فقد عمله ،إنّها السنة الأخيرة ،ماهي إلا شهور معدودة وأتخرّج من الجامعة ،ماذا الآن! هل أتوقف عن الدراسة لعدم قدرتي على دفع تكاليف الجامعة ؟ الآن أبي بحاجة إلى علاج وأدوية ،وأخوتي بمدارسهم ، هل أستسلم وأرفع الراية البيضاء! لا…هيهات لمثلي الاستسلام ، أنا في الحلقة الأخيرة من مسلسلي الحزين ، وفي الجولة الحاسمة من معركتي مع الحياة.
التجأت إلى خالي لكي يساعدني في دفع تكاليف هذه السنة ،ومن لي غيره ، فإن أبي لايستطيع العمل أبداً ، وبفضلٍ من الله استطعت اجتياز الامتحانات الاخيرة بتفوق ،كانت سنة طويلة بالنسبة لسابقاتها لكنّها مضت وبجدارة .
في حفل التخرج كان زملائي جميعاّ موجودين هم وأهلهم يشاركونهم فرحتهم ، وأنا كنت وحيدة ،كان رئيس الجامعة ينادي بكل اسم من أسماء زملائي لتكريمهم وتسليمهم الشهادات ، لكن المفاجأة ما كان يخبئه لي رئيس الجامعة ، فلم تبقَ إلا شهادة بيده وفجأة يُفتح باب القاعة ، رأيت أبي يدخل على كرسي متحرك ومن خلفه خالي وإخوتي ،نادى الرئيس باسمي الخريجة الأم الخريجة الأبربة المنزلالمناضلةالواثقة والمنتصرةآمال أحمد رحال ، لم أتمالك نفسي ، لحظاتٌ رائعة ، استلمت الشهادة وركضت نحو أبي ضممته على صدري وأحسست بدفء دموعه تنهال على كتفي ، قبلني إخواني ،هتف الجميع وصفقوا لي : نعم ياآمال لقد كنت مقاتلة شجاعة ومناضلة صادقة ، أنتِ خير مثال للصبر والعزيمة ، لقد كنت فخراً لأبيك وعائلتك ، نعم كيف لا أكون كذلك وأنا ابنة أبي فهو مصدر قوتي ومثلي الأعلى .
أمي الغالية طاب ثراكِ. ابنتك حققت أمنيتها ولم تخيّب ظنك أبداً.
لاحياة مع اليأس ولايأس مع الحياة ،ناضل من أجل هدفك ،كافح ،اصبر ،تأكد أن القادم أجمل
الكاتب: محمد رتغب الدوش