ضجيجٌ صاخب… أصواتٌ مدويّة… ترقبٌ… خوفٌ… وانتظارٌ للمجهول.
كانت تلك حالتي، شعرت وقد وقف الزمان لحظاتٍ بي، ألمٌ اجتاح جسدي المتهالك “يا إلهي! لقد أن الأوان، هذا ماكنت أخشاه، لا أريد الولادة، أنا أشعر بخوف شديد، ماذا أفعل؟!”
ويزداد الألم بجسدي شيئًا فشيئًا… لم أعد أستطيع التحمل… فجأة علت صرخة مدوية من صميم قلبي، من داخل النفق الذي كنا فيه، فصعق الجميع من صرختي فهبوا جميعًا رجالًا ونساءً يسألونني ماذا حل بي، فرأوني متعبة وقد حان موعد ولادتي، وبدؤوا يسألون من يستطيع مساعدتي من النساء اللاتي معنا داخل النفق، ولكن لم يجدوا أحدًا، هنا وهناك، تملَّك اليأسُ قلبي. عندما لم أجد من يستطيع مساعدتي عرفت أني ميتة لا محالة… لا أحد يستطيع الخروج من هذا النفق إلى الخارج، وفي السماء سرب هائل من الطائرات آلاف الصواريخ تنهال علينا، والبراميل المتفجرة، لن يستطيع أحد الخروج من هذا النفق!
حاولت الاستنجاد بهم لكنهم جميعًا اعتذروا مني، عذرتهم ولم أستطع لوم أحدهم، فالكل خائف على حياته، وفي تلك اللحظات قررت اتخاذ قرار مصيري بالنسبة لي… نعم سأخرج بحثًا عن المساعدة لإنقاذ طفلي، فأنا ميتة لا محالة مشيت خطوات متثاقلة ولكنني لم ألتفت إلى الوراء، صعدت الدرج الترابي الذي صنعوه للخروج من هذا النفق، التفتُّ ورائي وإذا الجميع ينظر لي نظرة الوداع فمن يخرج من هنا لا يعود حيًا. لم أكترث لذلك تابعت المسير، صعدت إلى سطح الأرض أطلب النجدة، وعندما خرجت رأيت نورًا يشع في السماء، لم يكن ضوء النهار ولا ضوء القمر؛ إنها ألسنة اللهب من كثرة القصف والنيران المشتعلة. وقفتُ لحظاتٍ بدأت فيها باستنشاق الهواء النظيف ولكن هنا كانت صدمة لأنني لم أستنشق سوى رائحة البارود والمواد الكيماوية.
نظرت إلى السماء فرأيت سربًا ضخمًا من الطائرات يرمون حمولتهم على الأحرار، فأخذت نفسًا عميقًا، ونطقت الشهادة، وبدأت أخطو إلى مصيري المحتوم بخطوات متثاقلة. بالكاد أستطيع السير من شدة الألم نظرت إلى ساعة كانت في يدي فإذا هي الساعة الثالثة فجرًا، ولكن من شدة ألسنة النار واللهب حولي ظننت أنها الثالثة عصرًا.
تابعت خطواتي البطيئة جدًا وأنا أصرخ ألمًا حاولت ولكني تعثرت ثم نهضت وتعثرت حتى أنني لم أعد أستطيع الوقوف، وفجأة نظرت وإذا الأرض تفترش دمًا من حولي. وضعت يدي على بطني الكبير، واعتذرت من صغيري لأنني لم أستطع إنقاذه. أجهشت بالبكاء، ثمَّ صرخت صرخة علت على صوت المدافع من شدة ألمي، صرخت قائلةً: “طفلي يا ربي طفلي بأمانك يا رب يا ألله، يا ألله!” وفجأة شعرت كأن أحدًا يشدني من يدي يريد أن ينهضني لأتابع المسير، قمت وتابعت المسير إلى أن وصلت إلى أقرب نقطة طبية. يعمل بها ابن اخي ولكنني للأسف وجدتها مدمرة وهنا علا صوتي واستغاثتي بالله “يا الله الشهادة! يا الله الشهادة! يا الله!” لم أعد أتحمل الألم، وأنا أنزف بشدة، وأنا أدعو من صميم قلبي والدموع تنهمر على خدي بشدة، إنني لا أستطيع التحمل أكثر من ذلك.
بعدها لا أعلم ما حدث. سمع بعض الأشخاص أنيني وبكائي، فصرخ أحدهم: “إسعاف! إسعاف! نريد إسعافًا”، صرخوا: “اخفضي رأسكِ”، وأنا بدون وعي وانتباه خفضت رأسي وتوسدت الأرض، فإذا بالبناء المجاور لنا يتساقط، والشظايا تتطاير في كل مكان، وانعدمت الرؤيا.. غبارٌ كثيف، دخان أعمى الأبصار، لم أعد أستطيع التنفس، لا أعلم كم مرَّ من الوقت على ذلك ونحن على هذه الحال، بقيتُ تحت الركام حتى ذهبت الطائرات.. أريد النهوض، لكنني لم أستطع؛ كان نصف جسدي تحت الركام. جاء رجال الإسعاف، وبدؤوا يزيلون الركام عن جسدي المتهالك، رأوا الدماء، علا صراخهم: “مصابة! إنها مصابة!” فقلت لهم: “لست مصابة، ولكن حان وقت ولادتي”، وهنا رأيت أحمد ابن أخي، “أحمد! أحمد!” بكيت وازداد بكائي، وعندما رآني ركض نحوي بلهفة يريد الاطمئنان عليّ، صرخ بأعلى صوته: “عمتي ما بكِ؟ ماذا حل بكِ؟”، – “حان وقت ولادتي، ولم أعد أتحمل أرجوك ساعدني”. ذهب سريعًا لإخبار الطبيب أننا بحاجة لسيارة إسعاف لينقلني إلى المشفى، ولكن الطبيب رفض ذلك، وأخبره أن الطيران الحربي يترصد سيارات الإسعاف ويقوم بقصفها!
نظر أحمد إلي نظرة، وقال: “سآخذ السيارة على مسؤوليتي، وإن متُ فأنا شهيد بإذن الله”. صعدنا إلى سيارة الإسعاف، وما إن سارت حتى تعرضنا لغارة جوية، فتمسكت بأحمد بشدة وأغلقت عيني، التفتَ إلي ممازحًا “اطمئنّي، أنا وأنتِ سنصبح أشلاءً مبعثرة! لا تخافي”. نظرت إليه وانفجرنا ضاحكَين مع كل ما نمرُّ به من مآسٍ.
وبفضل الله نجونا من الغارة وانطلق مسرعًا بالسيارة، وعندما مشينا قال لي: “هل أنتِ مؤمنة بالله؟” قلت: “الحمد لله”، ونطقنا الشهادتين “أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله” “اللهم لا تقبضنِي إلا وأنت راضٍ عني”.
سارت السيارة قليلًا، فرصدتنا طائرة، وبدأت برمي البراميل المتفجرة علينا، ولكن لطف الله غالب؛ لم يصبنا أي برميل منها، كانت البراميل تنهال علينا وأمامنا عن اليمين والشمال، والله خرجنا من العدم، كنت أقول طول الطريق: “عين الله ترعانا”، وقد رأيت بعيني رجلًا وامرأة انهال عليهما صاروخ فتقطعت أجسادهما، وهناك طفل صغير حديث الولادة طار رأسه مع أشلاء والدته، فبدأنا بالتكبير “الله أكبر! الله أكبر!” حان دورنا، هكذا ظننَّا.
ولكن وصلنا إلى المشفى الميداني… دخلنا في سرداب طويل تحت الأرض، فوجدنا عائلات كثيرة هناك يحتمون من القصف، وعندما رأوني ركضت امرأة نحوي تسألني ماذا حل بي، تعجبت من منظر جسدي الملطخ بالدماء… أخبرهم أحد الطاقم الطبي أن ينادوا طبيبة التوليد، لم يكن هناك مكان خاص، فاضطررت لألِدَ أمام الجميع، تجمَّعتِ النساء ورفعْنَ أغطية حولي لكيلا يراني أحد.
هنا كنت أشعر أنني أموت من شدة الألم والخوف لم أعد أستطيع المقاومة. بدأت الطبيبة تكلمني كي لا أفقد وعيي، ساعدتني كثيرًا في هذه الأثناء وهي تقول لي: “ادفعي! هيا، ادفعي!” وأنا أبكي. بدأ هجوم الأعنف من نوعه على مكان تواجدنا، فبدأت جدران القبو تهتز وينهال التراب على رؤوسنا، وفي تلك اللحظة الأليمة خرج طفلي إلى هذه الحياة ليستنشق أول نفس له، نفس ممزوج من الدم والتراب والبارود والدمار، أول صرخة من تحت الركام، ليخرج إلى واقعٍ مرير، ولكن قدرة الله فوق قدرة البشر. علا صوت بكائه فوق صوت المدافع والبراميل وفوق صوت النساء والأطفال الخائفين، فنظرت إلى طفلي وبتُّ أحمدُ الله، أحمدُ الله أنه نجا بأعجوبة، وقررت تسميته أحمد.
حمدت الله أني رأيت ولدي قبل موتي، جاءت الطبيبة تريد ثوبًا تلبسه لطفلي، لم تجد شيئًا، فتبرعت إحدى النساء بقطعة من ثيابها لتلبسها لابني، نظرَتْ إليَّ الطبيبة، وقالت: “منذ متى لم تأكلِي الطعام؟” فقلت لها: “لا أذكر، منذ ثلاثة أيام أو أكثر”.
حلَّ الصباح وبدأ موعد الهدنة، وأعادني أحمد إلى النفق الذي كنا فيه، وحينما رآني أهلي وأصدقائي بدؤوا بالتكبير، وحمدوا الله أني عدت سالمة،
فقلت لهم: “عمر الشقي بقي”.